ليت بإمكان القمة العربية المقبلة المقررة أواخر هذا الشهر في الرياض ان ترتقي فعلاً، كما تأمل الشعوب العربية، جميعا الى طموحاتها، وتستطيع أن تنجز ما عجزت عنه القمم العربية السابقة، في التصدي الى معضلتين أساسيتين طالما واجهتهما منظومة العمل العربي المشترك وخصوصاً خلال الستين عاما الاخيرة، وهما مواجهة التحديات الخارجية والتصدي للأزمات الداخلية. بعض هذه التمنيات تعود الى ميزة المكان الذي ستعقد فيه القمة والدور المتوقع ان تلعبه المملكة العربية السعودية بحكم الدور التقليدي البارز الذي تلعبه في السياسة العربية، بينما يعود البعض الآخر الى مناخ اليأس الذي يسود المنطقة بسبب الاوضاع والتحديات التي تواجهها والرغبة بالتشبث بالأمل التي ستظل تراود الشعوب العربية في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها دولها ومجتمعاتها. غير أننا إذا اردنا فعلاً ان نرسم توقعات معقولة، بحكم الضرورة والتجربة التي نعيشها منذ اول مؤتمر قمة عربي عام 1964، لا بد ان نتريث قليلا وننزل من سقف التمنيات الى ارض الواقع المر، لنتبين ما الذي يمكن ان تنجزه هذه القمة بينما المنظومة العربية تمر بإحدى اكثر المراحل خطورة في تاريخها. هذا يتطلب أولاً عدم تحميل القمة، وخصوصا في رمزها المكاني، أي دولتها المضيفة، اكثر مما تحتمل، في ظروف يدرك الجميع، ليس فقط شدة صعوبتها، بل ايضاً، مسؤولية اطراف عربية اخرى، عما وصلت اليه الامور في عالمنا العربي من ترد، ومسؤوليتها ايضا عن العمل الجدي للخروج من هذه الحالة. كما يتطلب، ثانياً، الاقرار بأن القمم العربية منذ اطلاقها لم تكن سوى منبر لصوغ خطاب تعبوي او اتخاذ مواقف متواضعة الانجاز، تجاه معضلات كبرى واجهت العالم العربي في مراحل معينة، وليست آلية صلبة ترتكز على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، للتحديات القديمة والمستجدة التي يواجهها هذا العالم. والواقع ان هذه القمة ربما تكون الاولى التي يواجه فيها العالم العربي جملة من القضايا والمشكلات والازمات الداخلية والخارجية المتشابكة والمترابطة، بطريقة لم يواجهها العرب عبر تاريخهم الحديث، مما يضيف الى حجم التحدي الذي عليها مواجهته لتفكيك هذه الازمات، والتي لم تعد تواجه الدول والحكومات فقط، بل اخذت تنحو منحى مجتمعيا داخل النسيج الشعبي العربي، الذي بقي متماسكا الى حد كبير خلال كل النكبات والنكسات التي مرت، واصبحت الآن تهدد كيانه بمخاطر الفتنة والتفتيت. فنظرة الى حزمة القضايا الرئيسية التي ستتبوأ جدول اعمال القمة ستوضح، ليس فقط الى اي مدى أصبح العالم العربي غارقا في الازمات، بل الى حقيقة ان هذه الازمات تحورت تماما، مثلما يتحور اي فيروس مرضي، وأخذت تهدد بالاستيطان داخل حجرات البيت العربي ذاته. إن أي نظرة الى القضايا الكبرى التي تواجهها المنطقة، بدءاً من الصراع العربي - الاسرائيلي، ومروراً بالأزمتين العراقيةواللبنانية، وانتهاء بشبح امتلاك ايران لسلاح نووي وطموحات فرض هيمنتها على المنطقة، تؤكد ليس فقط الارتباط الاقليمي البنيوي المستجد الذي أصبح يربط بين هذه القضايا، ولكن ايضاً امتداداتها السلبية سواء بشكل مباشر، أم عبر تفرعاتها وتجلياتها، وخصوصاً السياسية والايديولوجية والطائفية، الى داخل المجتمعات العربية نفسها، ما يزيد من عبء مواجهة كل من هذه القضايا، سواء من خلال حصرها في نطاقها الضيق، او باعتبارها تحديات خارجية مفروضة تواجه المنظومة العربية برمتها، وليس ركناً من أركانها فقط. كما أن نظرة الى طبيعة الازمات في فلسطينولبنانوالعراق تبين ان الصراع لم يعد مع قوى الاحتلال والهيمنة الخارجية فقط، بل تدنى الى صراعات بين القوى المحلية والعربية والاقليمية، قالباً معادلات التناقضات التقليدية في المنطقة، ومبرزا الثانوي منها على الرئيسي، حتى اخذ ينحدر شيئاً فشيئاً، الى مستوى شديد الفئوية والطائفية. فالصراعات الحمساوية - الفتحاوية في فلسطين وصراع الموالاة والمعارضة في لبنان انضمت الى حرب الطوائف الدامية في العراق، باعتبارها تعبيرا فاضحا عن الصراع على السلطة وعلى القرار الوطني، بعد أن كان المفترض فيها ان تبقي على الصراع كونه كفاحا من اجل التحرر والاستقلال وتأكيد الذات الوطنية. واذا كانت كل هذه الازمات أخذت مداها السياسي والاعلامي المدوي، فإن المعارك الدامية بين الحكومة اليمنية والحوثيين هي دليل آخر على نوع الصراعات الكامنة في المنطقة التي يمكن ان تخرج عن السيطرة وتتحول الى بؤرة اخرى من بؤر التوتر الطائفي فيها. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إن هذه الصراعات اتسعت واضحت الآن تتميز ببعدين في منتهى الخطورة، اذا لم يسارع الى تجاوزهما، الاول هو البُعد المذهبي سواء كان مكشوفاً ام مستتراً، والثاني، امتداد التدخلات عبر الحدود، سواء لاسباب مذهبية او سياسية او مصالح جيوستراتيجية. واذا كانت هذه التدخلات تتجلى في اوضح صورها في العراق، حيث لم يعد بالامكان اخفاء الاستقطاب الحاد الذي يعكسه الاقتتال الطائفي الشيعي - السني هناك على مجمل اوضاع المنطقة، فإن الوضع اللبناني ايضا كشف بدوره عن درجة معينة من هذا الاستقطاب، لا بد أن يتسع إذا فشلت الجهود الرامية لحل الازمة اللبنانية. وبدورها فضحت الأزمة الداخلية الفلسطينية مدى عمق التأثير الخارجي المتعدد الاقطاب، لا على مسار عملية السلام مع اسرائيل فحسب بل على الوضع الفلسطيني ذاته الذي أصبح منذ فوز"حماس"في الانتخابات الاخيرة رهينة التجاذبات الاقليمية ورهانات قواها النافذة. هناك عامل مشترك يجمع بين كل هذه الازمات الكبرى في المنطقة، وهو ايران، والذي اذا اضفنا اليه ازمة ملفها النووي، فإنها تشكل الهاجس الاكبر الذي على المنطقة برمتها، وليس المنظومة العربية وحدها، مواجهته بطريقة خلاقة توازن بين حاجات الاستقرار والامن الاقليمي، وبين المصالح الوطنية والقومية لدولها، وكذلك الهوية الاسلامية لمجتمعاتها، التي شكلت بوتقتها الثقافية والحضارية على مدى أربعة عشر قرناً. وما يضفي على الهاجس الايراني ابعادا اكثر درامية، المخاطر المحدقة بالمنطقة جراء الاحتمالات الجدية القائمة بشن الولاياتالمتحدة او اسرائيل ضربات، او حرباً محدودة ضد ايران، الأمر الذي سيضع العرب أمام تفاعلات سياسية وامنية تمس صميم نسيجهم الديني والثقافي والاجتماعي، ربما تفوق في مداها خبرة منظومتهم السياسية وتجاربها على مقاومتها، او حتى الصمود امام رياحها الراعدة. واذا كانت ايران، سواء من خلال مواقفها السياسية المعلنة، او نفوذها او امتداداتها، هي اللاعب البارز في معظم ملفات المنطقة الآن، فإن السؤال هو كيف ستستطيع القمة العربية بلورة موقف عربي موحد لمواجهة هذا التحدي الجديد، بمنطق ومنهج وتصورات ورؤى، توقف أي امكانية لتحول الهواجس من ايران وطموحها في أن تتحول الى قوة اقليمية، الى صراعات داخل البيت العربي. هناك حاجة أساسية لاستراتيجية عربية تقوم على مسارين أساسيين أولهما التعامل مع ايران بمنطق الدولة التي لديها مصالح واهداف قومية ترنو الى تحقيقها، وليس بمنطق هويتها المذهبية الشيعية. هذا المسار ليس ضرورياً لعزل ايران عن التوترات المذهبية في المنطقة وكبح جماح تعاظمها وتحولها الى عامل تغير جيوبولتيكي، بل الاهم من ذلك، لتأكيد الهوية الوطنية للشيعة العرب وانتمائهم الى بلدانهم كجزء من نسيج مجتمعاتهم الوطنية. أما المسار الثاني فيقتضي تفكيك ملفات الأزمات الكبرى التي تواجهها المنطقة بطريقة تحد من ربطها، بعضها بالبعض الآخر، ومن وجود ايران كقاسم مشترك بينها. ما نجده اليوم هو غياب هذه الرؤية الاستراتيجية العربية تجاه إيران والهواجس التي تقوم حول ادوارها في ملفات الأزمات العربية، ووجود هذه الاستراتيجية سيبقى المعيار الذي يحدد نتائج القمة الحالية. وهذا يتطلب أولاً: اقناع ايران بضرورة قيام علاقات ومصالح على اسس من الشراكة والجوار والاحترام المتبادل، وثانياً: الحذر من الوقوع في شرك الفخاخ التي تنصب لكل من ايران والعرب من قبل قوى خارجية يهمها نشر الفوضى في المنطقة لاهدافها الخاصة، وثالثا: عدم الاكتفاء برد الفعل او ترك زمام الأمور للطائفيين والمتشددين الذين لا يقفون امام طموحات ايران، بقدر ما يمنحونها من أوراق اضافية ضاغطة، بسبب ما يذكونه من التعصب ونيران الاحقاد المذهبية. قمة الرياض التي تعقد والحرائق تشب، او تكاد، في العديد من اجزاء المنطقة حولها، قد لا تأتي بالعصا السحرية التي تطفئ نيرانها بطرفة عين، لكنها تبقى بالتأكيد مؤهلة كي تضع لبنات بناء الجدار الذي يواجه العاصفة التي تحاول ان تذريها الى أجزاء اخرى. * كاتب عراقي