في المرحلة الراهنة وما سبقها، كان ثمة تخوف مضطرد من اتساع النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. وسرعان ما تعالت الأصوات هنا وهنالك منددة بما أسمته ب "الخطر أو المحور أو الامتداد الإيراني" أو ما أطلق عليه البعض "الهلال الشيعي"، والذي يتخذ من العراق قاعدة ومنطلقا له ثم يعرج على كل من سورية ولبنان ولا ينتهي بطبيعة الحال أو يتوقف عند مصر وإنما يتجاوزها إلى السودان وربما دول المغرب العربي. وتساءل البعض، إثر الحديث عن تكتل سني في مواجهة الامتداد الشيعي، عما إذا كانت طبول الحرب الباردة قد دقت بين العرب وإيران أم لا، بخاصة بعد تنامي التعاطف مع"حزب الله"إبان وإثر انتصاره التاريخي على إسرائيل. بيد أن التساؤل الذي يفرض نفسه وبقوة، يتعلق بكيفية تعاطي الأنظمة العربية مع الخطر الإيراني المزعوم، وما إذا كانت هناك ازدواجية في المعايير المتبعة في التعامل معه مقارنة بالمشاريع الأميركية تحت مسميات"الشرق الأوسط الكبير"وما يتبعه من حديث عن"الفوضى الخلاقة"وغيرها من الدعوات ذات الإطار السياسي - التبشيري الصادرة عن البيت الأبيض. كيف يمكن أن نحدد بداية مرجعية هذا التخوف العربي المتنامي من اتساع النفوذ الإيراني بالمنطقة؟ هل يرجع ذلك إلى تعامل إيران، كمشروع سياسي إقليمي، يتعاطى مع العراق كمجال حيوي وامتداد جغرافي له؟ أم أن الأسباب في الأساس محض تاريخية ترجع إلى تمسك إيران بفارسيتها إزاء العروبة وقوميتها؟ ثمة من يؤكد أن الدول العربية، كانت دائماً، وفق نظرية سائدة لدى النخب السياسية والبيروقراطيات الحاكمة وقادة الرأي العام، تنظر الى دول الجوار، ذات المرجعيات الحضارية المختلفة، كتركيا وإثيوبيا وإيران، على أنها يمكن أن تمثل إما عدواً محتملاً أو حليفاً استراتيجياً متوقعاً. إذ لا تكف تلك الدول عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية أو محاولة السيطرة كلية على أطراف المنطقة العربية بأسرها. لكن يبدو أن مثل هذه النخب السياسية لم تُحمّل نفسها، ولو لمرة واحدة، مسؤولية قطع الصلة مع هذه الدولة أو تلك، وكيف أنها سمحت لاسرائيل، على سبيل المثال، بالنفوذ وإقامة علاقات ذات أبعاد استراتيجية مع إثيوبيا مهددة بذلك أمن مصر في الصميم وبخاصة في ما يتعلق بمسألة المياه الإقليمية. ومع الإقرار بحدوث شيء من المرونة في التعامل مع هذه الأطراف، إلا أن الأمر يختلف في ما يتعلق بالمسألة الإيرانية. إذ بات مؤكداً لدى تلك النخب السياسية أن إيران تحمل أفكاراً تعتقد أنها يجب أن تصل إلى مسامع العالم العربي وتؤثر في قراراته وتصيغ ادراكاته حول المستقبل والمصير المشترك للأمة الإسلامية ورؤية العالم من منظور مختلف والتعامل مع القوى الكبرى وفق منطق جديد يستند إلى القوة لا الإذعان والثورة لا الخضوع. ورغم تراجع هذا التوجه فكرة تصدير الثورة الإيرانية في عهد الرئيس خاتمي، والذي كان مقتنعاً بعدم جدواه في التعامل مع العالمين العربي والعالمي على حد سواء، إلا أنه عاد للظهور من جديد مع تولي أحمدي نجاد الحكم سنة 2005. وقد قام خاتمي بالفعل بالعديد من المبادرات، وبخاصة مع دول الجوار، لخلق مزيد من الثقة ومد جسور التعامل بين العالمين العربي والفارسي، بهدف تحسين صورة إيران في الخيال السياسي العالمي عامة. وقد نجح، الى حد كبير، على الصعيد الداخلي، في إنهاء ما يمكن تسميته ب"عسكرة المجتمع الإيراني"، أي إبقاءه دائماً في حالة من"التعبئة العامة"وترقب حرب مستقبلية مع عدو موجود بالفعل أو محتمل. وبالمقابل، لم تحظ مبادراته بردود أفعال مماثلة من الجانب العربي كان من الممكن، لو قدر لها أن توجد، توسيع القواسم المشتركة بين العالمين على المستوى الإقليمي. والملفت للنظر في هذا السياق، أن ثمة تقارباً إيرانياً - أردنياً كان قد أوشك أن يصل إلى درجة التحالف بينهما في عهد ولي العهد السابق الأمير الحسن بن طلال. وقد عبر هذا التقارب عن نفسه في صورة تبادل بعثات علمية وسياحية بين كلا البلدين وإقامة معارض ومؤتمرات صناعية مشتركة ودعوة مفكرين إيرانيين لحضور مؤتمرات ثقافية أردنية، وبخاصة تلك التي كان يعقدها"المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية"والذي كان يترأسه الأمير الحسن بنفسه، كما تزايد الاهتمام المشترك بإشكالية التقريب بين المذاهب الإسلامية، أي بين السنة والشيعة على وجه الخصوص وغيرها من المسائل العلمية. وقد حاول البعض التشكيك في هذا التقارب واتهام الجانب الأردني بأنه كان مدفوعا برغبة أميركية لاستطلاع نيات الجانب الإيراني والوقوف على مشروعاته التوسعية بالمنطقة العربية، غير أن المبادرة الأردنية كانت تعكس في المقام الأول وجهة نظر الأمير الحسن، وقناعته الشخصية بأن إيران لديها من الإرث الحضاري المشترك الشيئ الكثير ما يُمكن من إقامة تحالف استراتيجي أو محور سياسي إقليمي مشترك معها. ويرى البعض أن الخطر الإيراني ليس وليد اللحظة الراهنة، وليس رهنا كذلك بطموحات القائمين على الثورة الإسلامية فقط، وإنما هو متجذر تاريخيا في البنية الإيرانية ذاتها وبما يتجاوز قيام الثورة الإسلامية بكثير، قد كان شاه إيران محمد رضا بهلوي يتصرف كشرطي في منطقة الخليج ويهدد دول الجوار، كما أن إيران ظلت محتفظة على الدوام بفارسيتها، وهو ما تبرهن عليه قناعات تطفو إلى السطح من مثل تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، وهي وإن كانت مسألة شكلية إلا أنها ذات دلالات سياسية. ومع تولي نجاد حكم بلاده عادت ثانية مسألة"تصدير الثورة الإسلامية"، لأن نجاد من الأمينين على خط الخميني، لذلك ثارت المخاوف مرة أخرى إزاء هذا التوجه، بخاصة وأنه هذه المرة يبدو شديد التعقيد ويعتمد أكثر من آلية معلنة وغير معلنة للوصول إلى أهدافه. لكن إذا كان من حق العرب أن يتخوفوا من هذا الامتداد الإيراني فإن ذلك لا يبرر على الإطلاق هذا الذهاب العربي باتجاه المعسكر الأميركي لسبب بسيط، وهو أن العرب لن ينجحوا في مواجهة المحور الإيراني بكونهم أدوات في يد المحور الأميركي، بخاصة أن بعض الدول العربية، كسورية، وبعض القوى الفاعلة في العملية السياسية داخل بلادها ك"حزب الله"في لبنان وحركة الحوثي في اليمن، لها علاقات قوية مع إيران، أي أنها تستند داخل الدول العربية ذاتها إلى قوى مؤثرة يمكنها توجيهها لخدمة أغراضها وإحداث نوع من الحراك السياسي يصب في الأساس لمصلحتها ويضر بمصالح هذه الدول وقد يؤثر سلبا أو إيجابا على المنطقة العربية كلها بضمان توجهات الدول والقوى التابعة لها سياسياً على الصعيدين الإقليمي والعالمي. تتعاطى إيران مع العراق كمجال حيوي لها وبعد استراتيجي متمم لكيانها وبوابة دخول للنفوذ إلى عمق المنطقة العربية ونقطة انطلاق أيضاً للهلال الشيعي. ووفقاً لذلك يؤكد البعض أن إيران، وليس اسرائيل، كانت السبب الرئيس في"غواية"الولاياتالمتحدة الاميركية وإقناعها بضرورة التخلص من نظام صدام بزعم امتلاكه لأسلحة دمار شامل، وذلك بتمريرها معلومات مغلوطة حول قدرات النظام العراقي السابق النووية إلى احمد الجلبي وذلك لتحقيق هدفين مهمين: الأول: جر الولاياتالمتحدة إلى المستنقع العراقي، ومن ثم يتسنى لإيران متابعة برنامجها النووي والذي ترغب في تحويل الأنظار عنه، ولاقتناعها كذلك بأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع أن تحارب على جبهتين معاً. الثاني: الخلاص من نظام صدام والذي يهدد كل دول الجوار وعلى رأسها إيران التي كلفها الكثير في حرب الثماني سنوات. وبغض النظر عن صحة أو خطأ هذا التحليل، فمما لا شك فيه أن ثمة تواطؤاً أميركياً - إيرانياً في الوقت الحاضر في العراق، بل إن النفوذ الإيراني فيها يفوق النفوذ الأميركي ذاته. وحتى داخل أفغانستان، فإن أغلب عقود إعادة إعمارها كانت من نصيب شركات إيرانية. يتساءل البعض حول الاستراتيجية الناجعة للتعامل مع النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، فيما يشكك آخرون في أن تكون لإيران أهداف توسعية وأن مقولة الخطر الإيراني أميركية الصنع تعادل الخطر الإسلامي، وأن المحافظين الجدد دأبوا على خلق عدو ما لتبرير سياستهم الخارجية، خاصة أنهم ضللوا العالم أجمع من قبل بالحديث عن الخطر النووي العراقي، فاستراتيجية خلق العدو التي يتبعونها تحقق مطامع الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط من جهة، وتحافظ على بقاء اسرائيل في قلب المنطقة من جهة ثانية. لذا فعلى العرب ألا ينخدعوا بتلك الدعاوى، وأن يتأكدوا هذه المرة بأنفسهم من طبيعة التوجهات الإيرانية وما إذا كانت تشكل تهديداً بالفعل أم لا وليس وفقا لمعطيات الإدارة الأميركية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فمن حق إيران وكل دولة ترى في نفسها القدرة على أن تلعب دوراً بارزاً في العملية السياسية أن تعمل لأجل ذلك، وعلينا ألا نقع في شباك الخطاب الأميركي ذي الطبيعة المزدوجة والذي يحلل لنفسه ما يحرمه على الآخرين. ومع ذلك، يبدو أن الانظمة العربية ماضية في التعامل مع التوجه الإيراني بنفس المنطق المغلوط الذي تعاملت به، ولا تزال، مع الأزمة العراقية. أي أنها ستتعاطى مع الإحداثيات الأميركية بتفاعل دون التحقق من صدقها أو عدمه، وهو ما يبرهن عليه استبعاد سورية من المعادلة العربية السياسية المتوازنة إلى حد ما والتي كان ينهض بها الثلاثي: مصر والسعودية وسورية، واستبدالها بالأردن، ما يعد خطوة أولى في سياق"الحرب الباردة"بين العرب وإيران، بالرغم من فشل الأردن في ملء الفراغ الذي أحدثه الخروج السوري، ما يؤكد ضرورة الحفاظ على هذا الثلاثي بغض النظر عن طابعه السياسي. ووفقاً لمن يتحدثون عن الخطر الإيراني، فإن إيران لا تهدد فقط مصالح أو أمن الدول بالمعنى المتعارف عليه، وإنما تهدد"كيان"هذه الدول، إذ تحاول إيران جاهدة الالتفاف حول المنطقة العربية وتطويقها بزيادة حدة الصراع الطائفي في العراق، وبدعمها"حزب الله"في لبنان، وبتدخلها في القضية الفلسطينية مؤكدة على وحدة المصير المشترك وأن اسرائيل عدوها الأول والأخير، وبسعيها لامتلاك أسلحة نووية لأغراض غير سلمية، وباندفاعها في تدعيم علاقاتها الاستراتيجية مع بعض الدول العربية كسورية، وبدعمها لحركات ثورية داخلية في بعض الدول العربية كاليمن، إضافة إلى تصاعد الاتجاه الشيعي بصورة لافتة للنظر، وكاريزمية القيادة ممثلة في كل من نصرالله ونجاد، الذي يتحدث بفخر مثير للانتباه عن القوة الإيرانية العظمى وقدرة بلاده على ردع من يهددها وإلحاق الهزيمة ليس فقط بإسرائيل وإنما بالولاياتالمتحدة الأميركية نفسها إذا ما فكرت في استخدام القوة ضد تطلعات ايران النووية. ويبدو أن ثمة تكتلات عربية قد شكلت بالفعل لمواجهة الخطر الإيراني وأن النخب السياسية على قناعة بالغة بضرورة احتوائه وتقليم أظافره ولو على الأقل مرحلياً. فليس من مصلحة الدول العربية الدخول في صراع مكشوف مع إيران حتى ولو لم تقبل خيارها الحالي والمستقبلي. فمن المستحيل أن تتراجع إيران عن طموحاتها المعلنة والخفية معاً، خصوصاً في ما يتعلق بسعيها لامتلاك الطاقة النووية، لذا أعتقد أن الدول العربية ستعمل مستقبلاً على اعتماد آلية الصراع غير المباشر مع طهران باستخدام الحملات الدعائية المناهضة لتطلعاتها وعقد مزيد من التحالفات السياسية المناوئة لحلفائها والحروب بالوكالة وما إلى ذلك من آليات الحرب الباردة. ولكن يبقى السؤال: لماذا لا يجرب العرب الخيار الإيراني هذه المرة؟ قد يبدو التساؤل مشروعاً، ولكن بدل أن يتخندق العرب بين محورين: أميركي وإيراني، لماذا لا يمتلكون خيارهم الخاص بهم؟ لماذا لا يلجأون إلى إقامة تحالفات داخلية وعلاقات شراكة في ما بينهم، بدل أن يبقوا دائماً وأبداً بين المطرقة والسندان؟ لماذا لا يترجمون مشاريع الوحدة العربية على مختلف مستوياتها العسكرية والسياسية والتنموية، ليس فقط بدافع الحد من خطر داهم، وإنما تطبيقا لرغبة شعبية ورسمية معا؟ يمكن القول أن لا سبيل لخيار عربي صميم ما لم يتحقق مشروع الوحدة العربية، أي ما لم تكن ثمة نية لقيام اتحاد عربي مشترك يتعدى الوعود والتصريحات والمجاملات واللغة الديبلوماسية الزائفة وينفذ إلى صميم الإرادة المجتمعية على المستويين الرسمي والشعبي، وما لم يتجاوز العرب البروتوكولات الشكلية إلى إقامة سوق عربية مشتركة على المستوى الاقتصادي، واتفاقية دفاع مشترك على الصعيد الأمني، بدلا من بقائنا بمثابة"فئران تجارب"لمحاور وخيارات أميركية أو إيرانية لا تخلو من تحقيق مطامع ومصالح وأهداف شخصية لن تتحقق إلا على حساب استقلالنا ومستقبلنا العربي المشترك. * كاتب مصري