هل بات لبنان مُهدّداً ب "كارثة أبدية" قوامها التلوّث النفطي الذي ضرب شواطئه إبان العدوان الاسرائيلي في تموز يوليو 2006، بأثر من قصف خزانات معمل الكهرباء الحراري في بلدة "الجية" جنوببيروت وتسرّب ما يقارب 15 ألف طن من مادة زيت "الفيول أويل" إلى البحر؟ هيمنت هذه الاشكالية المُخيفة على نقاشات مؤتمر بيروتي نَظّمه أخيراً"حزب البيئة اللبناني"بالتعاون مع مؤسسة"فريدريش ايبرت"الألمانية. التأم المؤتمر تحت عنوان"كارثة التلوّث النفطي على الشاطئ اللبناني: أين أصبحت المعالجات وما هي العبر والخطط للمستقبل"؟ وراجع الإشكالات التي رافقت معالجة"الكارثة"التي أصابت بحر لبنان، والتي لم يتردد كثيرون من الاختصاصيين في تسميتها"التلوّث الأبدي"، لأن من الصعب تبيان أثره إلا بعد سنوات. وفي هذا السياق، أكّد الأمين العام ل"حزب البيئة"حبيب معلوف، أن"الكارثة كشفت مدى هزال الإدارات الرسمية المعنية وتقصيرها، لا سيما تلك المخوّلة قانوناً متابعتها ومعالجتها. كما كشفت عدم جهوزيتنا لإدارة هذا النوع من الكوارث". وتساءل معلوف عن مصير"الدراسة عن آثار تلوّث الهواء الناجم عن العدوان على الصحة العامة... وما هي نتائج أخذ عيّنات من الفيول الذي تسرّب إلى البحر؟ وما محتوياته وتأثيراته القريبة والبعيدة المدى في كل أشكال الحياة البحرية والإنسانية"؟ وأضاف:"هبات تأتي وعقود توقّع ولا تقرير شاملاً حتى الآن حول سير الأعمال... هناك تلزيمات ولا دفاتر شروط. هناك تنظيفات ولا خطة لكيفية معالجة المواد المنظفة في ما بعد... هناك تلزيمات لدراسات لمصادر ومراجع متعددة من دون تنسيق بينها. بعض الدراسات أصبحت مُكرّرة ولم يتم الاستفادة منها، على رغم كلفتها العالية". وشارك في المؤتمر ممثلو جمعيات متخصصة ومندوبون عن وزارة البيئة اللبنانية، وممثلون عن الجيش. وطرحت أسئلة حول غياب لجنة الطوارئ للتصدي لتلوّث البحر، وعن أموال المساعدات وحجمها، وغياب التنسيق بين الجمعيات والمنظمات الدولية والمحلية التي ساهمت في تنظيف الشاطئ، وعن تقصير الإدارات المختصة في ادارة الأزمة وغيرها. ودعا المؤتمر إلى أن تشكل الكارثة حافزاً جديداً لأخذ العبر وتدارك الأوضاع وتفادي الأخطاء ووضع الخطط للمستقبل"خصوصاً ان معظم المنشآت النفطية في لبنان تجاور شواطئه. كما توصل المؤتمر الى مجموعة من التوصيات شدّدت على تشكيل لجنة وطنية تكون ممثلة للإدارات الرسمية المعنية كافة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المعنية والمهتمة، والقطاع الخاص والمنظمات الدولية، والدول الصديقة، للقيام بمسح جديد لكل المنشآت النفطية على الشاطئ اللبناني. كما طالب المؤتمر بفتح تحقيق عن الفترة السابقة، للمحاسبة وتحديد المسؤوليات حول اسباب غياب أو تغييب؟ لجنة للطوارئ تصوغ خططاً واضحة لمكافحة تلوّث البحر. وأوصى أيضاً بإصدار مرسوم يقضي بإنشاء لجنة طوارئ لإدارة التلوّث البحري وتنفيذ الخطط الموضوعة لمكافحته. ثقافة اجتماعية لمواجهة التلوّث والتلوّث البحري قضية شائكة لكنها لا تثير حماسة الجمهور كونها خارج"الغرائز"السياسية المُسيطرة لبنانياً على أمزجة الناس راهناً. وتحتاج ثقافة اجتماعية لتعود إلى واجهة اهتمامهم. والمعلوم ان القصف الاسرائيلي لمعمل الجيه، خرّب خزاناته الضخمة، ما أدى الى تسرب زيت"فيول أويل"إلى البحر، مشكلاً بقعة نفطية عائمة مساحتها عشرات الكيلومترات المربعة وكثافتها ما يزيد عن 40 سنتيمتراً. وتوسعت دائرتها باتجاه الشمال، بدفع من التيارات البحرية. وأكدت الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية إن طول البقعة النفطية وصل إلى 130 كيلومتراً وعرضها إلى 30 كيلومتراً. ثم تمدّدت هذه البقع لتغطي160 كيلومتراً من شواطئ لبنان شمال الجية، والتي تتألف من مزيج الرمل والحصى والصخور. وأحدث ذلك كارثة اقتصادية تمثلت بضرب مصادر مهمة لصيد الأسماك، إضافة الى أثره سلبياً في قطاع السياحة البحرية التي تعتبر من أهم الركائز الاقتصادية في لبنان. في المقلب الآخر من هذه الصورة المتشائمة، بات واضحاً أن البيئة البحرية لم تتأثر في الشكل الذي أُعتقد به أصلاً، لأن التلوّث كان"محدوداً نسبياً"من حيث الكمية والموقع. وأكّد الخبراء عدم امكان تحلّل هذه المادة في قعر البحر، بمعنى أنها أصبحت شبه جامدة، تتجنبها الأسماك في شكل واضح وتسبح باتجاه مناطق أخرى. وقد خفّف ذلك الأمر من الأثر السلبي للتلوث في الثروة السمكية. كذلك لم تُثبت التحاليل التي أجرتها وزارة الزراعة و"المجلس الوطني للبحوث العلمية"وجود أي مواد سامة في الأسماك التي تعيش في المياه اللبنانية. وعمدت الوزارة الى تكرار صيد عينات من تلك الأسماك لتشريحها وفحصها، بغية طمأنة المواطنين الى سلامة مصدر مهم للغذاء. في المقابل، توجب، في الفترة التي تلت الحرب مباشرة، المُسارعة الى إطلاق عمليات تنظيف واسعة. فمن المعلوم أن الخطر الأعظم للتلوث يكمن في دمار البيئة البحرية الساحلية التي تمتد من عمق عشرة أمتار داخل البحر إلى الأطراف البرية للشواطئ. واشار تقرير ل"برنامج الأممالمتحدة للبيئة""يونيب" إلى أن التلوّث النفطي المذكور، جرى احتواؤه. ويبدو أن مستويات التلوّث مألوفة عموماً في هذه المنطقة من حوض البحر الأبيض المتوسط. ويُمثل هذا التقرير أخباراً سارة لقطاعي السياحة والثروة السمكية المهمين اقتصادياً بالنسبة الى البلاد. في سياق متّصل، عُلم أن فريقاً متخصصاً بالدراسة والتحليل أجرى اختبارات على رسوبيات ومحارات مُحدّدة، تُعتبر مؤشرات طبيعية على وجود التلوّث وأمده. وشملت التحاليل حوالى 30 موقعاً على طول الساحل اللبناني هادفة الى تقويم آثار هذا التلوّث النفطي. شيء من التفاؤل على رغم الحجم الكبير للتسرب ووضوحه على طول الساحل، أظهرت نتائج التحاليل أن البيئة البحرية نجت في شكل ملحوظ من كثير من الآثار المدمرة على المدى البعيد. ولكن، اكتشفت مستويات عالية من التلوّث قبالة منتزه صور البحري الذي يمتد قرابة كيلومترين جنوب صور. ورصدت مستويات مُشابهة في الدامور الساحلية التي تبعد 15 كيلومتراً إلى الجنوب من بيروت. وعموماً تُشير النتائج الى أن مستويات الهايدروكاربونات العطرية المتعددة Poly Aromatic Hydrocarbons الحلقات في الرسوبيات والرخويات البحرية توازي نظيراتها في المناطق الساحلية المتوسطية، خارج دائرة التلوث، والتي تتأثر بعناصر أُخرى كنفايات المناطق الحضرية ومخلفات الصناعة وحركة السفن وغيرها. ولأن زيت الوقود ثقيل، فالأرجح أن نسبة كبيرة منه غرقت في سرعة إلى قاع البحر، على مسافة قريبة من محطة الطاقة المُدمّرة. وتشير التحليلات الكيماوية على زيت الوقود إلى أنه يحوي نسبياً مستويات منخفضة من الهايدروكاربونات السامة. ويحذر تقرير"يونيب"من أن كميات زيت الوقود في قاع البحر بالقرب من محطة الطاقة تجب إزالتها حين ظهورها مجدداً. في المقابل، يؤكد التقرير أن المشاكل البيئية الرئيسة تتعلق بالتخلص الآمن من نفايات الزيت المجمّعة. والمعروف أيضاً انه، وبعد انتهاء الحرب مباشرة، سارعت الجمعيات البيئية اللبنانية والمؤسسات الأجنبية إلى تنظيف الشواطئ الملوثة وقاع البحر. ووفقاً لإحصاءات"جمعية بحر لبنان"فقد وصلت الكمية الإجمالية للنفط الذي انتُشل من قاع البحر إلى 225 ألف ليتر، كما انتُشلت اضعاف هذه الكمية من المناطق الملوّثة من الشواطئ اللبنانية. وبدأت الجمعيات البيئية ووزارة البيئة البحث عن طرق للتخلص من هذا النفط. وهو يحتاج أموالاً طائلة لتكريره ومعالجته لإعادة استخدامه.