قارئ كتاب الشاعر ماهر شرف الدين "العروس" دار الجمل، 2007 قد يسأل نفسه عند انتهائه من قراءته: هل الكتاب ديوان شعري كما يشي التعريف به أم أنه مجموعة نصوص تتراوح بين الشعر والنثر؟ قد يكون هذا السؤال مدخلاً الى قراءة الكتاب - الديوان على رغم الإشكال الذي يثيره والذي يشرع المجال أمام قراءات متعددة. ولعل خصوصية الكتاب تكمن في هويته الملتبسة التي ستظل تحافظ على التباسها مهما اختلفت المقاربات. قد لا تبدو المقطوعات السبع التي ضمّها الكتاب - الديوان قصائد على مستوى الشكل بل هي أقرب الى النصوص - القصائد أو النصوص المفتوحة على الشعريّ والقائمة على التخوم التي يلتقي فيها النثر والشعر وينتفيان في الوقت ذاته. صفة النثر تسم هذه النصوص مثلما تسمها أيضاً صفة الشعر. إنها لعبة الشاعر التي نجح من خلالها في إسقاط سمات النوعين في نوع قد يكون ثالثاً، ليس هو قصيدة نثر في معناها التقني - التاريخي ولا هو سرد شعري مثلما عُرف لدى بعض الشعراء السورياليين ولا هو نصّ نثري صرف عماده التداعي أو التخييل أو الفانتازيا. قد يكون نصاً مفتوحاً، يرين النَفَسَ الشعري فيه احياناً على النَفَس النثري والعكس أيضاً في أحيان. لكنّ هذين النَفَسين يلتقيان أخيراً في أديم النص ذاته ويجعلان منه نصاً شعرياً قائماً بنفسه. الا ان النصوص - القصائد تختلف بعضها عن بعض، في المقاربة اللغوية و"التيمة"والحافز والجوّ على رغم المناخ النصّي العام الذي يجمع بينها. في هذا القبيل يمكن ان تُقرأ النصوص الأربعة مدد، النشوة، سعال والعروس انطلاقاً من كونها قصائد نثرية ولكن متحررة من المعايير أو المقاييس التي استنبطتها الناقدة الفرنسية سوزان برنار واختصرتها في ثلاثة: الايجاز، الكثافة والمجانية. وهذه المعايير سقطت أصلاً بعد الثورة التي تلت ثورة الحداثة نفسها وحررت قصيدة النثر من"القيود"جاعلة منها شعراً مفتوحاً على المغامرة في كل معانيها. وقد تكون قصائد ماهر شرف الدين النثرية من ثمار مغامرته التي خاضها لغوياً وأسلوبياً... في النص او القصيدة الأولى"مدد"يدخل الشاعر عالم الجسد من خلال"السرّة"التي تحلّ كهاجس إروسيّ ولغوي في الحين عينه."يؤنسن"السرّة و"يؤسطرها"و"يشعرنها"ويلقي عليها ظلاً روحياً وخيالياً أو وهمياً. فاذا السرّة"أثر إصبع في عجينة"و"فم مختوم"و"عين مغمضة". بل هي أيضاً"جُحر النظرة"وپ"قبو الأماني". ويمضي أكثر في فعل التخييل فيجعلها أنثى"ترسم أمام المرآة"و"تجلس وراء الكيبورد"ويسميها، وهنا الاغرب،"نيتشه صغيراً". نجح الشاعر في اختيار"السرّة"نجمة قصيدته، فهي النقطة المركزية في الجسد وترمز الى الحياة مثلما ترمز الى الموت، ناهيك بما تثير من إحساس غامض مشبع بالطفولة والاروسية والرغبة. النص الآخر وعنوانه"النشوة"أشبه بالتمثل الشعري لمعنى"النشوة". نص أو قصيدة إروسية بامتياز، مثله مثل نص او قصيدة"العروس". وفي هاتين القصيدتين يمعن الشاعر في اللعب اللغوي. الجمل قصيرة غالباً والافعال تنتقل من زمن الى زمن برهافة، النداء يقاطع السياق اللغوي..."سحبت شباكها من ظهري، اصطادت سمكي"يقول في"النشوة". ثم تنقلب"الانثى"من صيغة"الغائب"الى صيغة"المخاطب"كأن يقول في القصيدة نفسها:"أيضاً وأيضاً يا فتاة...". وفي قصيدة"العروس"يخاطب"المرأة"قائلاً:"حفيفة كغيبوية تتنفسين، ثقيلة كالنذور ترتفعين، بعينيك الذائعتي الصيت، المشغولتين بفضة الدمع". هذا شعر صاف، شعر مغرب في شعريته الشفيفة والجارحة. ويصف وجهها بپ"عتاب صغير"ويقول عن نفسه:"وأنا لم أكن أكثر من كتاب على وسادة". تبدو الغنائية بيّنة جداً في هذه القصيدة التي تخطت شكل القصيدة، وهي غنائية متأججة في قلب النثر ذي الايقاع الداخلي الذي ترسخه حركة الجمل، المتصاعدة حيناً والمنخفضة حيناً. وهذا الايقاع تجلّى كثيراً في النصوص - القصائد الاخرى التي يظنها القارئ للوهلة الأولى نصوصاً نثرية، شديدة النثرية، خصوصاً ان الشاعر ينطلق فيها من وقائع او أحداث حصلت فعلاً. وقد يسأل القارئ نفسه أيضاً عندما يقرأ المقدمات الصغيرة وهي أشبه بالأخبار: هل هذه النصوص مقالات؟ لكنه سرعان ما يكتشف ان الشعر حاضر هنا بشدة وإنْ وراء"قناع"النثر. في هذه النصوص - القصائد يتقاطع الشعر والنثر والسرد و"الخبر"عبر لعبة ذكية تجعل النص نفسه متعدد الانواع او السمات. فالشاعر يبني هذا النص انطلاقاً من عناصر ملموسة ثم يفتحه على الشعري. في نص"شهداء الشوكولا"ينطلق الشاعر من عمل انتحاري حصل في العراق وأودى بحياة أكثر من ثلاثين طفلاً عراقياً اعتادوا التوقف، في طريقهم الى المدرسة، عند جنود المارينز للحصول على قطع شوكولا. هذا الخبر المأسوي يستحيل قصيدة غنائية أو مرثية خالية من الطابع الدرامي أو الميلودرامي. بل ان الشاعر يكتب هذه المرثية بما يمكن تسميته"نثرية"عالية. يستهل الشاعر القصيدة بجملة لن يلبث ان يكررها تباعاً:"الاطفال شهداء الشوكولا لم يحفظوا دروسهم ذلك اليوم...". هذه الجملة - المفتاح سيجعلها الشاعر حافزاً على التصعيد الايقاعي للجمل والنص عموماً. هذا التصعيد"الخارجي"يستحيل بدوره تصعيداً"داخلياً"أو رثائياً أو مأسوياً بالأحرى:"الاطفال شهداء الشوكولا لم يغسلوا وجوههم جيداً..."أو:"الاطفال شهداء الشوكولا دمهم من ذهب الامهات مشغول ومن قصب النهر...". وهذا النص الذي يدمج بين نداوة النفس الشعري وقسوة الوقيعة، يتفجر داخلياً حتى ليصعب التمييز فيه بين اللحظتين المتواجهتين اللتين يصنعهما الحدث كوقيعة والحدث كفعل شعري. فبينما يستعيد الشاعر دجلة والفرات واصفاً إياهما بالدمع والجرح:"وكان دجلة يحفر خد العراق كدمعة طويلة والفرات كجرح طويل"، يكتب في مقطع آخر ما يشبه السرد الاخباري المباشر:"كان الاستشهادي يقف لهم بالمرصاد وكانوا يخافون لحيته الداكنة ويحسبون انه أخرس". وتبلغ النثرية أوجها عندما يقترب النص من"المقالة"متحايلاً عليها، كأن يقول الشاعر:"الاطفال الشهداء ملّتهم عيون الكاميرات وصاروا خبزاً بائتاً في نشرات الاخبار وموضع جدل وخلاف وفتاوى دينية...". ولا يتوانى في سياق آخر عن ادراج اسماء الزرقاوي وجورج دبليو بوش وصدام حسين وكوفي أنان في النص. الزهرة القرمزية في نص او قصيدة"الزهرة القرمزية"يحتفل الشاعر بپ"مقتل"الشاعرة الافغانية ناديا أوجمان ابنة الخمس والعشرين سنة، منطلقاً من الخبر المأسوي الذي نشرته وكالات الانباء والذي جعل منه مقدمة للنص - القصيدة. ويفيد الخبر ان الشاعرة الافغانية ناديا أوجمان عثر عليها مقتولة في منزلها وعليها آثار ضرب مع جروح في الرأس. واعترف زوجها بأنه ضربها بالبلطة حتى الموت، وذنبها الوحيد انها تكتب الشعر الذي بحسب الزوج، يتنافى مع التقاليد الاسلامية. إنها شهيدة"الشعر"اذاً أو"زهرته القرمزية". وقد اصدرت ديواناً يتيماً عنوانه هو عنوان القصيدة"الزهرة القرمزية". ويعتمد الشاعر اللعبة نفسها في القصيدة السابقة مكرراً جملة"أيها الرب..."جاعلاً منها حافزاً على التصعيد. وفي هذا النص تتعدد الازمنة ويتداخل النثر في الشعر واللحظة الزمنية باللحظة المطلقة والمخاطبة بالسرد:"لم يعثر عبدالرحمن على زوجته ناديا تخونه مع رجل آخر. عثر عليها تكتب الشعر". ثم ينتقل الى الكلام في صيغة ضمير الجماعة نحن فيقول:"أقسمنا ان نثأر للشعر بالشعر... ان نفرط أوراق ديوانها كي نصنع منها طائرات ورقية نرسلها لتصطدم بكل أبراج العالم". في نص او قصيدة"المفتاح"يكتب الشاعر مرثية جميلة للكاتب والصحافي سمير قصير الذي اغتيل في سيارته. قصيدة أليمة، يخاطب فيها القتيل او الشهيد وكأنه لم يسقط في الانفجار:"لا تحيّي احداً، فقط ابتسم لهم. سامحهم رجاء. انس الجريدة والجامعة". ويعتمد ايضاً الجملة - المفتاح وهي هنا:"ان تدير مفتاحاً في سيارة...". يحلّ هاجس الموت في القصيدة بمأسويته وسوداويته، وعبره يهزأ الشاعر من الموت نفسه ومن فعل القتل:"ان تدير مفتاحاً في سيارة يعني ان تستعيد في لحظة واحدة أعز ذكرياتك عليك... يعني ان تتوقع موتك... يعني ان أسرراً خبأتها ستدفن معك...". ولعلّ أجمل ما يبلغه تكرار هذه الجملة هو حين يقول له:"يعني ان تقتنع بالصورة الاخيرة، والاشْهَر، التي ستصيرك: وجه مدمّى، شعر محترق، عينان مغمضتان من دون اهداب...". الصورة هي التي صارت الشهيد وليس الشهيد هو الذي صار صورته. هل أجمل من هذا الضرب المجازي؟ وقد يكون هذا النص - القصيدة من أجمل النصوص التي كتبت عن سمير قصير. لعلّ أهم ما يميّز كتاب"العروس"أنه يظل ملتبس الهوية، وعصياً على التصنيف. نصوص - قصائد جريئة تكسر الحاجز القائم بين الانواع والمدارس لتبني فضاءً شعرياً رحباً يتصالح فيه النص والقصيدة بصفتهما نسيجاً لغوياً واحداً، يرقى فيه النثر الى مصاف الشعر ويرتقي الشعر بالنثر الى مرتبة الابداع.