بعد تردد وتحسب من جانب كل من الولاياتالمتحدةوإيران وسورية لم توافق الدول الثلاث على المشاركة مع 13 دولة أخرى في اجتماع على مستوى وزاري في بغداد ضم الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن ودول الجوار الإقليمي للعراق إضافة إلى مصر والبحرين، بل أعلنت قبولها المشاركة في مؤتمر آخر على مستوى وزراء الخارجية قد يعقد في اسطنبول أو في القاهرة. التردد والتحسب كانت لهما مبرراتهما وأسبابهما التي قد تكون مجرد مبررات وأسباب مفتعلة حرصاً على إظهار"التمنع"وعدم الاندفاع في علاقة قد تبدو مكروهة إن لم تكن محرمة، كان كل طرف حريصاً على أن يقيس وبدقة شديدة ردود فعل الأطراف الأخرى، وكان هذا القياس أقرب إلى قياس وزن القوى لدى كل طرف، ومدى استعداده للتعاون، في وقت كان كل من هذه الأطراف الثلاثة: الولاياتالمتحدةوإيران وسورية، شديد الاهتمام باللقاء مع الآخر: إيران وسورية في جانب والولاياتالمتحدة في جانب آخر، لكنه كان شديد الحرص أيضاً على ألا يكون هذا الاهتمام تعبيراً عن حال من الضعف، وعن حاجة للتهدئة: الولاياتالمتحدة حريصة على التهدئة مع إيران، وسورية في العراق، وإيران حريصة على التهدئة مع الولاياتالمتحدة في الملف النووي، وسورية حريصة على التهدئة مع الولاياتالمتحدة في لبنان. من هنا كان التساؤل منطقياً عما إذا كان من الممكن أن يكون اجتماع بغداد الإقليمي - الدولي بوابة انفراج للعلاقات بين إيرانوالولاياتالمتحدة وبين سورية والولاياتالمتحدة، وجاءت الإجابة بعد انتهاء الاجتماع الذي لم يستمر غير يوم واحد هي: نعم، لكنها نعم مراوغة لإدراك كل منهما أن الظروف لم تنضج بعد، وأن الدوافع لم تكتمل. هناك مظاهر تقول إن الولاياتالمتحدة باتت على يقين من أنها لن تخرج منتصرة من العراق، وهناك مؤشرات تقول إن الحل العسكري لم يستبعد بعد كأحد خيارات حل أزمة البرنامج النووي الإيراني، إن لم يكن من جانب الولاياتالمتحدة، فإنه حتماً من جانب إسرائيل مازال مطروحاً ومازال ملحاً على حد تعبير افيغدور ليبرمان وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية وهي وزارة أنشئت خصيصاً للتعامل مع الملف النووي الإيراني، فقد أعلن ليبرمان أن إسرائيل تستطيع أن تتصدى وحدها لأي تهديد نووي إيراني إذا لم تعط العقوبات الدولية النتائج المرجوة، وأكد أن بلاده مستعدة لمواجهة المشكلة الإيرانية حتى وإن كانت وحدها. هذا التأكيد يكشف إدراكاً إسرائيلياً بخطورة البرنامج النووي الإيراني لدرجة قد تدفع بالإسرائيليين إلى المغامرة بشن عمل عسكري ضد إيران أياً كانت النتائج. هذا يعني أن الولاياتالمتحدة في مأزق العراق، وإيران في مأزق البرنامج النووي، وبقي على كل منهما أن يعيد حساباته ويقرأ أوراق الطرف الآخر جيداً ليحدد ما هي حدود الالتقاء الممكنة معه، وما هي حدود التنازلات التي يمكن أن يقدمها، وما هي المكاسب التي يمكن أن يحصل عليها في المقابل. ربما كان هذا هو أحد أهم أسباب قبول الولاياتالمتحدةوإيران بالذهاب إلى بغداد. فقد أدرك كل منهما أنه يريد قراءة الآخر عن قرب آخذاً في الاعتبار المستجدات في الأحداث وهي أغلبها سلبية بالنسبة الى الطرفين. بالنسبة الى الولاياتالمتحدة أدرك الرئيس الأميركي جورج بوش أنه خسر أربعة رهانات في وقت واحد. خسر الرهان أولاً على نجاح استراتيجيته الجديدة في العراق التي بسببها استبعد توصيات"لجنة دراسة العراق"برئاسة كل من جيمس بيكر جمهوري ولي هاملتون ديموقراطي. لم تنجح استراتيجية بوش التي أعطت كل الأولوية للحل العسكري للأزمة العراقية، فقد انهارت الخطة الأمنية التي حملت اسم خطة نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية الموالية للاحتلال، وها هو الجنرال ديفيد بتريوس القائد العسكري الأميركي الجديد في العراق يجزم أنه"لا حل عسكرياً للوضع في العراق"، ولم يجد ما يقوله إلا دعوة"قيادة وشعب هذا البلد إلى وضع خلافاتهم جانباً، والاتحاد لمواجهة العنف الطائفي الذي يعصف بالبلاد". وخسر بوش ثانياً الرهان على تغيير الموقف الأميركي من الحرب. فالديموقراطيون يواصلون ضغوطهم ويكرسون جهودهم لإجبار الرئيس الأميركي على إنهاء الحرب في العراق، وعلى المستويين الشعبي والإعلامي تتزايد الضغوط من أجل الانسحاب من العراق وبالذات بعد تأكد الجميع من أن استراتيجية بوش تسير في طريق مسدود في العراق. وخسر بوش ثالثاً الرهان على استمرار ما يسمى ب"التحالف الدولي"الذي استخدمته الإدارة الأميركية ستاراً يتخفى من ورائه الاحتلال الأميركي للعراق. فقد كان آخر المنسحبين وأهمهم هو الحليف البريطاني. وخسر بوش أخيراً الرهان على إمكانية فرض استقطاب في المنطقة بين فريقين أحدهما معتدل موال لواشنطن والآخر متطرف يضم، وفقاً للتصنيف الأميركي، إيران وسورية و"حزب الله"وحركة"حماس". كانت فرضية هذا الاستقطاب خاطئة لأنها لم تدرك أن أول من سيدفع ثمنها ليس دول"محور الشر"بل دول"محور الاعتدال". فقد افترضت الإدارة الأميركية أن توريط دول محور الاعتدال في مواجهة طائفية"سنية - شيعية"مع دول الشر ستقود حتماً إلى تحويل إيران إلى عدو إقليمي للعرب بدلاً من إسرائيل وإلى فرض صراع عربي - إيراني بدلاً من الصراع العربي - الإسرائيلي، وأعطت هذا المشروع اسم"الشرق الأوسط الجديد"كما اسمته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، ولكن دول محور الاعتدال أدركت أن تفجير صراع طائفي في المنطقة لن تدفع ثمنه إيران وسورية و"حزب الله"فقط، بل أغلب هذه الدول نظراً لأنها تضم أقليات شيعية كبيرة، ووعت الدرس العراقي جيداً، وأدركت أيضاً أن الحرب الطائفية في العراق إذا تفاقمت سوف تتجاوز الحدود العراقية إلى دول الجوار. من هنا بالتحديد نشأت الديبلوماسية الجديدة بين المملكة العربية السعودية وإيران واتخذت من ملف الأزمة اللبنانية شعاراً لها، وبدأت تعمل في اتجاه"إطفاء الحرائق وليس إشعالها"، كما كانت تأمل الإدارة الأميركية. هذه الخسائر المضاعفة للرهانات الأميركية في المنطقة وفي العراق كانت من أهم الدوافع لقبول المشاركة في المؤتمر الذي عقد في العراق وشاركت فيه إيران وسورية في محاولة لجس النبض في إمكانية توظيف كل منهما لإنقاذ المشروع الأميركي في العراق. في المقابل أدركت إيران أن سياسة التشدد التي اتبعها الرئيس محمود أحمدي نجاد تقودها حتماً إلى الصدام مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، كما أدركت أن فرض عقوبات دولية اكثر شدة عليها سوف يضطرها لدفع أثمان باهظة ليس فقط في الملفات الإقليمية بل في الداخل الإيراني نفسه وهو نقطة الضعف الأساسية للنظام الحاكم في طهران الحريص دائماً على تأكيد أنه نظام شرعي يحظى بالدعم الكامل والقبول الطوعي من الشعب الإيراني. لقد اضطرت السلطات الإيرانية إلى فرض نظام توزيع البنزين المدعوم بنظام الحصص الوطنية في مؤشر يؤكد وجود أزمة حقيقية في عجز الإنتاج الوطني من مشتقات البترول عن الوفاء بالحاجات الداخلية. هذا العجز يمكن أن يتطور إلى ورقة ضغط خطيرة في ظل فرض قيود على تصدير دول الجوار مشتقات البترول إلى إيران إذا صدر قرار جديد يفرض عقوبات أشد على إيران من بينها رفض التجارة معها. إيران تواجه أيضاً خلافات مع روسيا حول تمويل مشروع مفاعل بوشهر مما قد يؤدي إلى تأجيل استكماله في الوقت اللازم. لكن الأهم من ذلك هو توقيت الخلاف مع روسيا حول مفاعل بوشهر. فهذا الخلاف يأتي في وقت أضحت فيه إيران شديدة الحاجة إلى علاقة أكثر من حميمية مع روسيا والصين على خلفية المواجهة الحاصلة بينها وبين مجلس الامن، ناهيك عن أهمية هذه العلاقة في منع أي حل عسكري أميركي للأزمة مع إيران حول ملفها النووي. إيران تحسست أيضاً أن خطراً حقيقياً على دورها الإقليمي ومكانتها الإقليمية بدأ يتزايد بسبب سياستها الخاطئة في العراق الداعمة لأحزاب وميليشيات شيعية تدعم الاحتلال وتمارس الإرهاب الطائفي ضد السنة. لقد عبر الشارع العربي عن غضبه ضد هذه السياسة الإيرانية بوضوح شديد، كما عبرت النخب العربية المحسوبة أنها صديقة لإيران وحريصة على علاقاتها العربية عن ازدواجية الدور الإيراني الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين والمعادي لها في العراق، لكن التعبير الأهم عن الغضب ضد السياسة الإيرانية كشفه مؤتمر إسلام أباد الذي شاركت فيه دول سبع كلها دول سنية هي باكستان وتركيا ومصر والسعودية وإندونيسيا وماليزيا والأردن، لكنها أيضاً دول صديقة للولايات المتحدة مع تعمد استبعاد كل من إيران وسورية في إشارة مهمة إلى تقاطع ملفات هذا المؤتمر مع السياسات الإيرانية والسورية. إدراك الخطر من جانب كل من الولاياتالمتحدةوإيران كان دافعاً للذهاب إلى بغداد. الولاياتالمتحدة ذهبت لإنقاذ مشروعها في العراق، وإيران ذهبت لتخفيف المواجهة مع الولاياتالمتحدة حول برنامجها النووي، لكن كل منهما كان حريصاً على أن يحصل أكثر مما يدفع وكل منهما على يقين بأن الآخر في حاجة ماسة إليه، لذلك جاءت مناقشات اجتماع بغداد وكأنها مبارزة إيرانية أميركية، مبارزة بالاتهامات ومبارزة بالمطالب. الولاياتالمتحدة تطالب إيران بدعم أمن واستقرار العراق وإنهاء الإرهاب وكانت قد اتهمتها في الأسابيع السابقة بتوريد الأسلحة والمتفجرات للإرهابيين. رسالة السفير الأميركي المغادر في العراق زلماي خليل زاد الذي شارك في مؤتمر بغداد مع ديفيد ساترفيلد مستشار وزارة الخارجية لشؤون العراق كانت شديدة الوضوح عندما أكد أن"الفشل في السيطرة على الأوضاع الأمنية المتردية في العراق ستنعكس آثاره على كل دول المنطقة"، في تحذير واضح مفاده"أن على دول المنطقة أن لا تتصور أنها يمكن أن تصطاد في المياه الأميركية المتعكرة في العراق". خليل زاد خاطب من يعنيهم الأمر قائلاً:"لا يمكن لأي دولة من المشاركين في المؤتمر أن تستفيد من فشل مهمتنا بالعراق، وإنما في الواقع سيعاني الجميع بشكل سيئ". وحرص ساترفيلد خلال هذه المناقشة على أن يشير إلى حقيبته قائلاً:"إنها تحوي وثائق تثبت تسليح إيران لميليشيات شيعية في العراق". وإذا كان خليل زاد قلل من أهمية فكرة حدوث تغيير في السياسة الأميركية تجاه إيران، ونفى إجراء محادثات ثنائية مع الوفد الإيراني وقال:"تحدثت معهم مباشرة في وجود آخرين"، فإن الوفد الإيراني وعبر رئيسه عباس عراقجي نائب وزير الخارجية أوضح أن"الاجتماع اختبار لقياس السياسات الأميركية ومعرفة ما إذا كانت الولاياتالمتحدة تحاول بحق حل المشاكل بالرغم من أنها لا تزال تبحث عن المغامرات". هكذا جاء الاجتماع جس نبض متبادل أميركي - إيراني، وإذا كان قد أسفر عن تشكيل ثلاث لجان فنية على مستوى الخبراء للتعاون والتنسيق الأمني وتفعيل الاتفاقيات السابقة للمساعدة في مكافحة"الإرهاب"ومنع التسلل وضبط الحدود، كما أسفر عن نية لعقد اجتماع آخر شهر نيسان ابريل المقبل على مستوى وزراء الخارجية، فإنه رغم ذلك لم يستطع الاقتراب بجدية من أزمة العراق الحقيقية وهي الاحتلال الأميركي على النحو الذي كشفه بل فضحه البيان الذي أعدته مجموعة من الشخصيات الوطنية العراقية وتضمن مشروعاً لبرنامج انتقالي للعراق ما بعد انسحاب القوات الأجنبية، البرنامج الذي جعل همه الأساسي عروبة العراق واستقلاله ووحدته كشف إلى أي مدى كان اجتماع بغداد مراوغاً بل ومزيفاً بالنسبة للعراق وشعبه بقدر ما كان كذلك بين أطرافه. * كاتب مصري