تروي طرفة مصرية أن أحد الفلاحين عاد إلى بيته مساء يوم تجديد انتخابات الرئيس السابق أنور السادات - الذي اشتهر بفوزه بنسبة 99.9 في المئة من اصوات الناخبين - وحين سألته زوجته عن يومه، أخبرها بأنه صوَت ضد انتخاب الرئيس ولم يصوت له، لأنه غيرُ راض عنه. إلا أن المرأة التي خشيت على زوجها سطوة رجال الأمن واخافته من أن ذلك قد ينتج منه"خراب بيت"وما يتبعه من سجن وإذلال، استطاعت أن تقنعه بالعودة وتغيير تصويته والاعتذار عن ذلك كونه أخطأ في التصويت. هُرِعَ الرجل المذعور إلى المكان الذي أدلى فيه بصوته وأخبر العاملين عن رغبته في تغيير تصويته الأول الذي أخطأ فيه، وأنه أراد أن يصوت"مع"الرئيس لا"ضده". لكن خوف الرجل البسيط زال في الحال حينما أخبره العاملون بأنهم قد لاحظوا هذا"الخطأ"وصححوه نيابةً عنه. ربما كان في هذه الطرفة مدخل لفهمٍ أبعدَ من مجرد قضية تزوير انتخابات معينة، إذ المسألة تتعلق بفهم ثوابت الأسس القانونية السياسية للدولة الحديثة. فالانتخابات ما هي إلا وسيلة دستورية مشروعة يحقق من خلالها الشعب رغبته في اختيار ممثليه سواءً في المجالس التشريعية أو على مستوى الرئاسة. واحترامها يعني احترام الدستور الذي أقرها، كما أن تزويرها أو تعديل القوانين المتعلقة بحفظ هذا الحق الديموقراطي المشروع للشعب، يعكس استهتاراً بأسس الدولة الديموقراطية الحديثة. ولعل أحد أبرز ما يفرق بين عقلية العالم الغربي وعقلية العالم العربي من الناحية السياسية القانونية، هو مسألة احترام القوانين عموماً والقانون الدستوري خصوصاً. ففي العالم الغربي تحاط دساتير البلاد بهالة من القدسية يكون من الصعب جداً التعدي عليها. ففي الولاياتالمتحدة على سبيل المثال - لا يكون تعديل الدستور إلا بموافقة ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، وهو أمر ليس بالهين ويتطلب وقتاً طويلاً، ثم بعد ذلك لا بد من تصديق الرئيس على ذلك التعديل، ومع ذلك فلا يتوقع لأي تعديل دستوري أميركي أن ينقض الأسس أو المبادئ الديموقراطية التي قامت عليها الدولة الأميركية. بيد أن دستور الولاياتالمتحدة الذي كتب قبل أكثر من مئتي عام، قد شهد سبعة وعشرين تعديلاً دستورياً، لم يشمل أي من هذه التعديلات نقضاً للأسس التي يقوم عليها الدستور. في المقابل، نجد أن الدستور المصري الذي أقر لأول مرة عام 1882 في عهد الخديوي توفيق، قد ألغي بعد ذلك بفترة وجيزة، ثم صدر دستور جديد عام 1923 حمل اسم العام الذي صدر فيه، ولكنه ما لبث أن ألغي أيضاً عام 1930. وفي شباط فبراير 1953 صدر الإعلان الدستوري المتضمن أحكام الدستور الموقت للحكم خلال فترة الانتقال، والذي ما لبث بدوره أن ألغي في حزيران يونيو من العام نفسه، حين ألغيت الملكية وأعلن النظام الجمهوري. وفي عام 1956 صدر الدستور المصري الجديد، الذي استبدل بدستور الوحدة عام 1958، إثر قيام الجمهورية العربية المتحدة، وبعد ذلك بثلاث سنين صدر دستور موقت آخر، ثم في عام 1971 تم الإعلان عن الدستور المعمول به اليوم، وإن كان قد تم تعديله عام 1980. اختلاف المنهج إذاً، في"تقديس"القانون الدستوري بين العالمين الغربي والعربي، يعكس اختلاف فكر وعقيدة سياسية. ففلسفة الفكر السياسي الغربي تقوم على أن الدولة أساسها الشعب، وهو الركيزة الأولى التي عليها يقوم البناء السياسي. وليس أدل على هذا من أن يُستفتح الدستور الأميركي بعبارة"نحن الشعب الأميركي"، إذ هي كلمة لها مدلولاتها السياسية والفلسفية العميقة، في حين تفتتح دساتير الدول العربية باسم الزعيم وبأمره، إذ هو ركيزة البناء السياسي، ولأجل هذا يكون شعار الدول العربية:"الله ثم الزعيم ثم الوطن". من هذا المنطلق، فإن الزعيم السياسي في عالم الغرب سواء كان رئيساً للجمهورية أو رئيساً للوزراء، أو غير ذلك، لا يملك أن يفرض رأيه في تغيير أو تعديل أي مادة من الدستور، ولا أن يتحايل على ذلك. أما في العالم العربي فالأمر مختلف جداً. التعديلات الدستورية التي تقدم بها الرئيس المصري إلى مجلس الشعب في شهر كانون الأول ديسمبر الماضي، ويتم الاستفتاء عليها اليوم، جاءت لتشمل تعديل 34 مادة في الدستور المصري، تتناسب مع تاريخ التعديلات الدستورية المصرية السابقة، التي تصب كلها في نهاية الأمر في مصلحة الحزب الحاكم. ففي عام 1980، قام الرئيس السادات بطرح تعديلات دستورية عدة تمت الموافقة عليها جميعاً، كان أبرز ما فيها، تعديل المادة 77 من الدستور، التي كانت بحسب دستور 1971 تحدد مدة الرئيس بفترتين رئاسيتين، كما هو الأمر في الولاياتالمتحدة بعد التعديل الثاني والعشرين لدستورها في عام 1947، والذي قضى بعدم جواز ترشيح الرئيس لأكثر من دورتين متتاليتين. فجاء التعديل الساداتي ليترك الباب مفتوحاً للرئيس في إعادة ترشيح نفسه إلى حيث شاء الله وشاء هو. وفي العام الماضي، تم تعديل المادة 76 من الدستور المصري، ليلغي نظام الاستفتاء ويتم التحول إلى الاقتراع السري المباشر بين مرشحين عدة لانتخابات الرئاسة، حيث أفضى التعديل في نهاية الأمر إلى فوز الرئيس حسني مبارك بفترة رئاسية جديدة. واليوم ترى المعارضة المصرية أن هذه التعديلات الدستورية المقترحة لا تشمل ما تطالب به المعارضة من إعادة العمل بالمادة 77، ولكنها تشمل أموراً أخرى قد لا تتناسب مع المصلحة المصرية العامة، مثل منع الإشراف القضائي على سير الانتخابات، وأمور أخرى"لا تؤدي إلى مزيد من الديموقراطية"، كما ذكرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، التي أعربت عن"قلق"بلادها تجاه هذه التعديلات الدستورية. ويبدو واضحاً اليوم أن الشعب المصري - ومنه أحزاب المعارضة - على درجة من الوعي، بحيث أنه يدرك أن هذه التعديلات المقترحة لن تختلف كثيراً عن التعديلات الدستورية السابقة من حيث كونها تحقق مكاسب للحزب الحاكم وحده، وبالتالي فموقف المعارضة الممتنع عن المشاركة في التصويت ضد هذا الاستفتاء، مبني على الخوف، لا من التصويت ضده كما ظنت زوجة الفلاح المصري، ولكن الخوف من أن يتبرع القائمون على فرز نتيجة الاستفتاء بتصحيح غالبية نتائج من يصوّتون "خطأً" ضد هذه التعديلات الدستورية! * حقوقي دولي.