تطرح الكاتبة عزة شرارة بيضون في مقدمة كتابها "الرجولة وتغيّر أحوال النساء" المركز الثقافي العربي، 2007 عدداً من الأسئلة، ويأتي بحثها الميداني محاولة للإجابة عنها. تدور الأسئلة حول تعامل الرجال مع التغيير الذي طرأ على أحوال النساء نتيجة تعليمهن واستقلالهن، حول صورتهم لشريكة العمر، موقفهم من التمييز ضد المرأة في مجتمعاتنا، وغيرها من القضايا المتعلقة بعلاقة الرجال بالنساء في مجتمعنا المعاصر، ومدى التغيير الذي طرأ على المنمطات الجندرية نتيجة ذلك. الجزء الأول من الكتاب يفصل"أزمة الذكورة"الناتجة من أن السمات التقليدية للذكورة من صلابة أو شجاعة باتت لا تلائم سوى قسم ضئيل من الرجال. فضلاً عن أن دور الرجل التقليدي في إعالة الأسرة وحمايتها أخذ يهتز أمام استقلالية المرأة وعملها المأجور وشعورها بالقوة والثقة بالذات. وإذ تمكنت النساء من إدماج قيم وإنجازات جديدة بقيم أدوارهن وإنجازاتهن التقليدية، ما زال معظم الرجال يتمسكون بتصوراتهم القديمة لذواتهم. فقمع الحركات الأصولية للنساء تحت ستار"الفضيلة"وپ"التبتل"يبدو بمثابة استرداد لهيبة الذكر المسلوبة في وجه غزو الغرب الثقافي. لكن الباحثة تؤكد أن هناك ذكورات، لا ذكورة واحدة، إذ تتغير الذكورة تبعاً لتغيرات الإثنية والطبقة والجنسانية والبيئة والعلم. فتقارن بين ذكورة بيروتيين، مثلاً، وذكورة من لا يزال يمارس جرائم الشرف. وسواء كانت الذكورة بيولوجية كما يرى البعض، أم جرى تكوينها ثقافياً، كما يقول البعض الآخر، فهناك من يدافع دفاعاً قوياً عن الذكورة التقليدية التي تعتبر أن القوة والسلطة والسيطرة والعدوانية هي ما يميزها. إلا أن هذا المعتقد أدى إلى شعور الرجال بالعجز لأن غالبيتهم لا تستطيع الالتزام بهذه الصفات، ومن هنا الحاجة إلى إعادة صوغ الذكورة على ألاّ تقوم على أساس أن الذكورة عكس الأنوثة، وهو مركب خاطئ، وإنما على الجمع بين سمات الذكورة التقليدية كالقوة واعتماد الذات وتحمل المسؤولية، مثلاً، وأخرى مغايرة لمفهوم الذكورة التقليدي بحيث يعبر الرجال عن انفعالاتهم ويتجاوبون مع انفعالات الآخرين. فبإزالة مركب"ذكورة - أنوثة"تتعزز نظرية أندروجينية الرجل، أي تكامل الذكورة والأنوثة معاً في الفرد الواحد. وقد بيّنت الأبحاث أن الأندروجينيين أكثر سواء في ميزان الصحة النفسية من المنمطين. ثم تنتقل الباحثة إلى مناقشة ما اعتبرته سمات الذكورة لتبين أنها تنطوي على مسلّمات غير قابلة للإثبات بالبرهان، ولذلك اختلف العلماء في موقفهم منها. أما هي نفسها فاعتمدت المنظور الجندري لأنه يحترم تعدد المقاربات والطرائق. بعد ذلك تعرض للذكورة والأنوثة في التصور من خلال بحث تمهيدي كانت عيّنته 248 طالباً وطالبة ينتمون إلى أديان ومناطق مختلفة. عرضت عليهم 93 سمة طالبة منهم تحديد مدى مرغوبيتها للمرأة أو للرجل في مجتمعنا. وبيّن تحليل المعطيات إحصائياً أن النموذج"الرجالي"الساكن في أذهان هؤلاء الطلاب ينحو الى أن يكون فاعلاً في الواقع، لا منفعلاً به، عقلانياً وواقعياً ومسيطراً على زمام الأمور. أما النموذج النسائي فتطغى عليه النزعة المتلقية لفعل الآخرين، كالقناعة والتواضع والطاعة، وصفات شخصية كالهدوء والتمهّل والترتيب. إلا أن الذكور والإناث جميعاً اتفقوا على أن أكثر السمات المرغوبة في المرأة هي الرغبة بتربية الأطفال والإخلاص لشريك واحد، وفي الرجل الطموح وتحمل المسؤولية. فتظهر هذه النتائج أن تصورات الشبان والشابات للمنمطات الجنسية تعزو للرجل سمات تظهر قيمته كفرد، فيما تبرز سمات المرأة قيمتها في موقعها من الجماعة. ولكن حين تقارن الكاتبة بين نتائج بحثها وتلك التي توصلت إليها في بحث في الموضوع عينه قبل عشرين سنة ترى تغييراً، ولو طفيفاً: فبعض السمات التي اعتبر مرغوباً فيه لدى الرجل دون المرأة أصبح مرغوباً فيه لدى المرأة أيضاً، كذلك انتقلت سمات أنثوية إلى سمات محبذة للمرأة وللرجل على السواء. في الدراسة الميدانية الرئيسة، وقد تجاوزت عيّنتها الألف وثلاثمئة طالب وطالبة من إحدى عشرة جامعة في لبنان، شكل النموذجان الذكري والأنثوي اللذان حصّلتهما الباحثة في بحثها التمهيدي بُعدي صورة الذات في الوسيلة البحثية التي تحاول أن تقيس صورة الذات الجندرية. وبيّن التحليل الإحصائي للمعطيات أن الشبان والشابات لا يجدون حرجاً في عزو سمات عبر - جنسية لذواتهم ما دامت سمات مرغوباً فيها لدى الاثنين معاً، ولكنهم لا يصفون ذواتهم بسمات يعتبرونها غير مرغوب فيها اجتماعياً لجنسهم. فمن منظور الذكورة - الأنوثة يبدون منمطين، لكنهم أقل تنميطاً من منظور يرى إلى الذكورة والأنوثة بصفتهما مركبين متعامدين ومستقلين. فالذكريون أي ذوو الذكورة المرتفعة والأنوثة المنخفضة من الشبان لا يتجاوزون ربع العيّنة المدروسة. وكذلك نحو ربع الشابات أنثويات أي ذكورة منخفضة وأنوثة مرتفعة. إلا أن الذين تجاوزوا التنميط الجندري من الجنسين إلى الأندروجينية يقتربون من الثلث. ويكتشف القارئ أن الشبان المسيحيين أكثر التزاماً بالمنمط الذكري من الشبان المسلمين، فيما كان التزام الشابات المسيحيات بالمنمط الأنثوي أقل بكثير من الشابات المسلمات. إلا أن الشبان من الطائفتين متوافقون على عزو ذواتهم بالسمات الذكرية المحبذة للرجل حصراً. في جزء ثان من الكتاب تعرض الباحثة لشريك المستقبل في تصور الشبان والشابات في العالم وفي لبنان، فتبين أن سمات الشريك/ة كانت في الماضي محض تقليدية، أما الآن فتتجاور الصفات التقليدية مع أخرى شخصية وعلائقية، كالمستوى العلمي وقوة الشخصية في الشابة واحترام المرأة وحقوقها والوفاء لها في الشاب. والشريكة المأمولة في تصور الشاب اللبناني تشبه المرأة المرغوبة اجتماعياً، وتتمتع بسمات أنثوية بدرجة أكبر من السمات الذكرية ويستبعد عنها تماماً السمات التي تصف الرجال دون النساء. أما الشابة فتعزو لذاتها السمات المحبذة للرجل دون المرأة والتي استبعدها الشاب في الشريكة، وتعزو لذاتها الصفات الأنثوية الاستبعادية الحياء والطاعة، مثلاً أقل بكثير مما يرغب الرجل. هذا، وفي نتائج الدراسة الميدانية التي أجرتها الباحثة على طلاب أو طالبات الجامعات في لبنان - عيّنة دراستها الميدانية الرئيسة - تبيّن أن الغالبية ترغب في شريك/ة رافض/ة للتنميط الذكري والأنثوي، يلي ذلك الرغبة في شريك/ة أندروجيني/ة. فمعظمهم يرغب في شريك شبيه في الاتجاهات الشخصية والأخلاق والاهتمامات وغير ذلك. على أن رفض التنميط في الشريكة كان غالباً يتمثل في شخصية منخفضة الذكورة والأنوثة معاً. ومع أن الشاب اللبناني يعي الهوية النسائية الجديدة، إلا أن الشريكة التي يتمناها هي شريكة"أقل"منه، على بعدي الذكورة والأنوثة النفسيين. هؤلاء يتصفون، بحسب الدراسات، بتقدير ذات منخفض. هذا التفضيل لشريكة"أقل"تعزوه الكاتبة الى مظاهر تهميش الشباب النفسي بسبب التحولات الكبيرة في مجتمعنا، ودور المرأة ومكانتها في بعض هذه التحولات. في الجزء الثالث تتناول الباحثة التعصب الجنسي، أي التمييز ضد المرأة، والتعصب ضد الرجل. فتستعرض دراسات عربية وأجنبية تناولت التعصب ضد المرأة التي فاقت بكثير تلك التي تناولت التعصب ضد الرجل بسبب حداثة التنبه الى هذه الظاهرة. والدراسات العربية التي تناولت ظاهرة التعصب ضد النساء بيّن أكثرها تحقير قدراتها العقلية والأخلاقية التي تبقيها في موقع دوني اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً وقانونياً. والمقارنة بين موقف النساء والرجال في هذا المضمار تشير إلى أن النساء يرغبن في احتفاظ الرجال بامتيازاتهم الجندرية، وبعض هذه الدراسات أشار إلى عدم موافقتهن على المساواة الكاملة بين الجنسين. أما اتجاهات الشبان والشابات اللبنانيين من المعتقدات الجندرية التقليدية فهي تشير، بحسب دراسة الباحثة الميدانية، إلى أن الشبان يميلون إلى التأرجح بين الرفض والقبول، فيما ترفضها الشابات، وإن باعتدال. وفي هذا المضمار تعرض الكاتبة لموقف هؤلاء من حصول الرجال على حقوقهم، وتحيّز قوانين الأحوال الشخصية لهم، ومن أهمية تعلّم الإناث، ومحورية الأمومة وتأثرها بالعمل خارج المنزل، ومن الجنس والدين. فلا تجد أن للسن، أو الانخراط في اختصاص ذي منحى إنساني واجتماعي، ولا صورة الذات الجندرية، تظهر فروقاً كبيرة تجاه هذه المسائل بين الشبان ولا بين الشابات، بمختلف سماتهم. لكن الطلاب ذوي الاختصاص الإنساني والفني كانوا أكثر ليبيرالية من ذوي الاختصاص العلمي والتقني. ومع أنهم اتفقوا جميعاً على أن الأديان مجحفة بحق المرأة، إلا أن المسلمين كانوا أكثر تحفظاً من المسيحيين في تعديل المواد المجحفة إيماناً منهم بأنها صادرة عن إرادة إلهية. أما المواضيع الحساسة كالدين والجنس فكثر الذين قالوا إن لا رأي لهم فيها. وتخلص النتائج إلى أن أولاد الأم العاملة أكثر ليبيرالية تجاه قضايا المرأة من أولاد ربة المنزل، ومثلهم طلاب الجامعات الخاصة مقارنة بطلاب الجامعة اللبنانية. وتبين الدراسة كذلك أن المسيحيين أكثر رفضاً من المسلمين للمعتقدات والأدوار الجندرية. أما الذكورة العالية عند المسيحيين شباناً وشابات فتراها، استناداً إلى دراسات ميدانية لبنانية، عائدة إلى أن الأم المسيحية أقرب إلى التحديث في تنشئة أولادها من الأم المسلمة، مما يعزّز الوجهة الفردية في أولادها فيتسمون بسمات الفعالية التي تحيل إلى مهارات فكرية وإبداعية، وهو ما تنطوي عليه الذكورة في تصوّر الشباب اللبناني. أما المسلمون فينحون إلى التوجه نحو الآخرين أولاً، ثم إلى الالتفات إلى الحاجة الذاتية بدرجة لاحقة. لذلك يكون شبانهم أقل ذكورة من المسيحيين، وشاباتهم أكثر أنوثة من المسيحيات. ولعل من نتائج اختلاف التنشئة أيضاً أن المسيحيين أكثر ليبيرالية من المسلمين تجاه المرأة وأدوارها. ولكن مع أن المنمطات الجندرية لا تزال هي الغالبة، إلا أن هناك نزوعاً عاماً إلى تجاوزها مع أن الشبان ما زالوا متأخرين عن الشابات في هذا المضمار. وقد يكون أهم تجديد في الهوية الذكورية هو تبني بعض أفرادها سمة الأندروجينية. وتخلص الباحثة إلى نتيجة بعيدة الدلالة وهي أن الشاب اللبناني مطمئن إلى ذكورته لأنها لا تزال، بحسب تخميناتنا، محورية في المهمات المطروحة في مجتمعنا وفي الحروب"التي ما زلنا بحاجة إلى خوضها."ص281 كتاب عزة شرارة بيضون كتاب مميز في سعة اطلاع الباحثة على موضوعها، في دقة تناولها إياه وتوضيحها الاستبيانات التي استخدمتها بكل ما فيها من تفاصيل، في توضيحها ما تذهب إليه بواسطة أمثلة ملموسة، ثم في ما يبرز من تواضع العالمة الحقيقية وعدم انحيازها. ويزيد من قيمة الكتاب ما يحتاج إليه كل قارئ عربي، وهو ثبت المصطلحات العلمية المستخدمة باللغتين الإنكليزية والعربية وتعريفها بها في آخر الكتاب. وهل أجمل وأبعد دلالة من أن تكون أهدت إلى زوجها أحمد كتابها عن الرجولة؟!