عاصفة جديدة تجتاح خلايا العقل الإسلامي تزلزله وتروعه وتشكك في مرجعياته وموروثاته وتبعث الحسرة في ذاته على جموحه القديم، تذل كبرياءه وتستخف بثوابته وأصوله لكنه لم يستفز ولم يسع الى البحث عن بواعث نهضته المستحيلة إزاء وضعية العقل الغربي الشغوف بكل مستحدث، البعيد عن المألوف، الغائص في دروب وآفاق غير مطروقة، المتعامل مع اللحظات كأنها أشواط زمنية لا بد أن يكون بينها تغاير فارق وإلا انتفى أي معنى للوجود الإنساني. لكن كل ذلك لم يمنع العقل الغربي من الاحجام عن مطامعه وشهواته فقد أنتج دراماتيكية الصراع الغربي الشرقي التي تجلت في مشروع القرن الأميركي القائم على أبعاد ومحاور تتجدد في صورها وتحتفظ بنمطية مضمونها طبقا للتوازي مع المصالح والاستراتيجيات، ولاحت قبسات هذا المشروع على صعيد مسارات عدة ولكن الذي حظي برعاية فائقة - لا سيما بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر التي مثلت نقطة فوضوية في تحقيق الرعونة المطلوبة لمشروع القرن - هو التوجه الفاعل نحو تقويض الإسلام وسحقه داخل المجتمعات الإسلامية متدثراً بآليات تحمل جاذبية خاصة لهذه المجتمعات بحيث تصبح هي أداة تفعيل لها وتصبح بذاتها عوناً للمشروع الأميركي، على غرار الإسلام المعتدل، الإسلام الديموقراطي، الإسلام الليبرالي. وتعلو الآن صيحة تنطلق من مدينة سان بطرسبورغ في ولاية فلوريدا الأميركية تنادي بالإسلام العلماني وعصر التنوير القرآني المؤسس على القراءة العلمانية للقرآن إعمالاً لحق النقد المهدور وإعلاء لقيمة حرية الفكر والتعبير أيضا، ذلك عبر مؤتمر عالمي احتشدت له النخب المناهضة للعقيدة الإسلامية كافة ليكون بحق قمة إصلاح الإسلام التي تستهدف مناقشة وتحليل حالة الأحادية وما تصفه ب"الانغلاق"الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية بسبب نفوذ التيارات الأصولية، من ثم فهي في حاجة ماسة لأن تدور في فلك حركة كونية كبرى ساعية نحو تأكيد عقيدة العلم وأولوية القيم العلمانية. إن الإشكالية الفكرية التي تحركها تلك القمة لا ترتبط بجوهر القضايا المطروحة للنقاش قدر ما ترتبط بالأطر الموضوعية المتحكمة في السياق العام، فحين تمثل أهداف القمة تناقضاً تاماً مع طبيعة التوجهات والمرامي الفكرية للمشاركين فيها تتلاشى المصداقية والنزاهة البحثية، إذ أن شريحة كبرى من تيار المحافظين الجدد باتجاهاتهم وأهدافهم الشهيرة تسيطر على القمة باعتبارهم أصحاب رسالة تاريخية في التأصيل المعاصر للأفكار الاستعمارية القديمة، ودعاة استغلال الفزع الناجم عن أحداث سبتمبر لاعتناق نظرة امبريالية صارخة وكحماة لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي وكأشداء على الإسلام وعالمه، فها هي رموزهم أعلنتها صراحة، فاليوت كوهين يرى ضرورة تحويل دفة الحرب على الإرهاب إلى حرب ضد الحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة توسعية عنيفة لا تتسم بالتسامح وتعادي القيم الغربية وأن الإسلام ذاته هو العدو الأوحد للولايات المتحدة، من ثم فالعداوة التاريخية في تصوره مصدرها الانتماء العقيدي ولا شيء آخر! وفي الاتجاه نفسه كانت رؤية ريتشارد بيرل وديفيد فرام في أطروحة"نهاية الشر"الزاخرة بالتعبيرات العنصرية والمجسدة للعداء السافر للإسلام والمسلمين، ذلك فضلا عن بول وولفوفتيز محترف صناعة الأعداء وتوفيرهم تأميناً لاستمرار الحرب الشعواء ضد العالم الإسلامي. وعلى صعيد آخر تمثل نمط المشاركين من بعض النخب التي تعادلت وفاقت المحافظين الجدد كرها وعداء للإسلام، فالكاتب الهندي الملقب بابن الوراق سخرية وتهكما، له باع عريض في نقد القرآن والإسلام وتاريخه وشخصياته وأحداثه ومنطقه عموماً رغم أن أطروحته الأخيرة لم تسق أي استدلالات جديدة تجاه ذلك الموقف التقليدي الذي اعتمده كثير من أقطاب الفكر ثم تراجعوا عنه حين تبدت لهم معطيات أخرى إزاء القضية الإسلامية برمتها، وسجلوا بذلك نوعاً من الشرف الأدبي والثقافي. ونماذج أخرى تتلاقى مع السياق الفكري العام نفسه زاعمة أنها الكتيبة المضادة والمنتظرة لإحداث التغييرات الجذرية في المجتمعات الإسلامية وانتشالها من ضبابية القرون الوسطى لكن بأدوات هشة لا ترقى حتى إلى محاولات مراجعة وتغيير الذات قبل التوهم والادعاء بإمكانية تغيير المجتمعات. ولعل كل ذلك يجعلنا نتواجه بصرامة متجددة مع تلك التساؤلات الملحة على الذهنية المترفعة عن الخلط والأهواء والالتباسات العمدية مثل: كيف يستبيح ذلك العقل الغربي إعادة صوغ وتشكيل مفردات العقل الإسلامي في جوهره العقائدي؟ هل لا يزال هذا العقل يحتفظ بتوجهات الدور الكلاسيكي للمدارس الاستشراقية؟ ما هي الأدوات الجديدة التي يطرحها هذا العقل لإعادة قراءة القرآن بشكل مختلف جذرياً عن ذي قبل؟ ما هي المردودية الفكرية على هذا العقل إثر ذلك؟ هل يفتقد العقل الغربي لآلية التعامل مع المقدس، وبمعنى آخر هل يمثل ذلك المقدس قضية من قضايا العقل التي يخوض في تحليل جزئياتها ودقائقها؟ لماذا لم يكشف هذا العقل الغربي الطموح عن الكثير من الخوافي التي يحملها المقدس؟ ما هي مراحل الاستراتيجية الفكرية لدى العقل الغربي في اتجاه ما يسمى بعصر التنوير القرآني؟ هل لا يزال العقل الغربي يحتفظ بميراث العداء التاريخي للإسلام؟ أم أن حضارته المعاصرة حررته من مواطن الزلل وارتفعت به نحو التسامي على صغائر الماضي؟ هل لا يزال العقل الغربي أسير تلك الخلفية الفكرية التي أسسها غلادستون وغيره والمنطلقة من فكرة الإبادة الدينية لإحكام السطوة السياسية؟ هل مارس العقل العربي في زمن شموخه وتألقه ذلك الدور الاستعلائي الذي يمارسه العقل الغربي المعاصر؟ ان المتأمل في جدليات الخطاب الغربي في مراحلها التاريخية يجد أنها لم تتغاير في فلسفتها العامة وفي البناء الأيديولوجي الموجه على رغم تباين الأسباب والظروف والاحتمالات، فهي جدليات تصادمية ليست بالمعنى الإيجابي لمفاهيم الجدل ولكن بمعنى آخر يحكمه منطق الفوقية والدونية لذا ستظل متصادمة أبداً مع تيارات الوعي المعاصر. * كاتب مصري