العالم الاثنيني القطب غاب مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991. والعالم الأحادي الذي خرج من أنقاض النظام الشيوعي قد لا تكتب له حياة بعد الانتخابات الأميركية النصفية في تشرين الثاني نوفمبر 2006، فالانتخابات هذه قيدت سلطان جورج بوش. وكثرة الأقطاب الدوليين في طور التحقق، بعد ان كانت أمنية. فماذا جرى؟ في العقد الأخير من القرن العشرين سيطرت الولاياتالمتحدة على العالم وحدها في غياب قوى أخرى تضارعها مكانة وقوة. فهي كانت في عز توثبها الاقتصادي، وتتمتع بطاقات تكنولوجية في الحقل العسكري لا نظير لها. وتوج النصر الدولة التي حملت لواء الإيديولوجية الليبرالية في أثناء الحرب الباردة. وفي مقابلها، كان نمو الصين يمضي طرداً ويتعاظم. ولكن الصين كانت متخلفة عن دول الطليعة، ولا تزال نهباً لمشكلات تتعاورها. ومنذ أواخر الثمانينات، رزح اليابان في قيود شلت نموه. وخرجت الهند لتوها من ركود مديد اليد الطولى فيه لنهج حزب المؤتمر الإيديولوجي. وأصاب أوروبا الاضطراب والتردد وهي على عتبة ضم الدول المدعوة"البلدان الشرقية"إليها. وحسب مراقبون كثر ان تصدع روسيا قد يقصرها على"دوقية موسكو الكبيرة"... وانعطفت الأمور مع القرن الجديد. فهجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 نبهت الى نمط جديد من الخطر، سمي"الإرهاب المدمر"، ليس بينه وبين الدول رابطة أو علاقة. وأدى قرار الولاياتالمتحدة التدخل في العراق الى انتشار الفوضى والاضطرابات، وإلى تعاظم التهديدات الصادرة عن الشرق الأوسط. واضطر إرسال أميركا عدداً كبيراً من القوات الى هذه المنطقة من العالم، اضطرها الى تقليص خياراتها واحتمالات تدخلها في مناطق اخرى من العالم. فخسرت شطراً غير قليل من مهابتها ودالتها. واهتزت صورة الصدارة العسكرية ذات السند التكنولوجي. ولعل عودة الجندي علامة من علامات العاصفة. فمنذ تشرين الثاني 2006، يدور النقاش على تاريخ انسحاب القوات الأميركية من العراق، وعلى كيفيته. وأما الانسحاب نفسه، فهو آت من غير شك. وفي الأثناء تبدد حلم شرق أوسط أكبر ديموقراطي. ولا يجهل أحد بعد اليوم ان قدمي الجبار التكنولوجي الأميركي من فخار. وعلى هذا، طويت صفحة القوة العظمى المهيمنة. فنظير اميركا تثبت الصين أقدامها في الميادين كلها قوة كونية ثالثة. وهي تعلن سعيها في إرساء مجتمع متناغم، في الداخل والخارج على حد سواء. ولكنها لا تهمل تنمية طاقاتها العسكرية والفضائية. وتضطلع الصين بسياسة خارجية نشطة، خصوصاً في أفريقيا. وخرج اليابان من ركوده النسبي، وتتواتر القرائن على استعادته شهيته للقوة. وتستثمر الهند انقلابها الى الليبرالية الاقتصادية في اوائل العقد السابق، وهي تزمع صبغ النظام العالمي بصبغتها في حقل التجارة. وعلى رغم تعثر الاتحاد الأوروبي بقوالبه الاقتصادية والاجتماعية الجامدة، وبمشكلات هيئاته وأنظمته، فدوره الدولي فاعل. وبعثت روسيا من جديد، على رغم ترديها الديموقراطي الذي يعيبها عليه الإيديولوجيون الغربيون. والحق ان خليفة يلتسين أسعفه الحظ، فامتلأت خزائن الدولة بعوائد النفط، وهو استجاب رغبة شطر كبير من الروس في تثبيت سلطة الدولة، وأرسى أسس نمو اقتصادي ملحوظ. وعودة روسيا الى المسرح الدولي لا تخفى، في أوروبا صربيا، والشرق الأوسط زيارة بوتين المملكة العربية السعودية، والهند. وتصريحات سيد الكرملين في ندوة الأمن بميونيخ، ومعارضته خطط توسيع الأنظمة المضادة للصواريخ الى بلدان حلف شمال الأطلسي الجديدة، وحرج البيت الأبيض جراء هذه المبادرات، هذه كلها أمارات لا تخطئ على ان زمن المهانة ولى. والمحصلة هي ان العالم كثير الأقطاب. ولكن توزيع الأدوار لم يستقر بعد. فالولاياتالمتحدة تتمتع بصحة اقتصادية جيدة. ودينامية الشعب الأميركية في الأوج. وينبغي ألا يستهين أحد بحظوظ وثبة جديدة غداة الانتخابات الرئاسية الآتية. والأقطاب الآخرين يشكون كلهم أعطاباً جدية. فعلى الصين ان تعالج مشكلات اجتماعية وبيئية حادة. ولا تبدو على اليابان سيماء مقارعة راعيه. والهند قوة إقليمية في المرتبة الأولى. والاتحاد الأوروبي بعيد من التماسك. وروسيا بلد في طور نقاهة. والقياس على النظام الإثنيني متعذر. فهذا كان غير متجانس، ومطبوعاً بإيديولوجيات متنافرة. والمنازلة الأميركية - السوفياتية كانت نزاعاً حتى الموت. واليوم تنكر البلدان الأوروبية على الصينوروسيا ما تنكره عليهما باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان. والبلدان ينكران على البلدان الأوروبية غطرستها، ولكنهما يقرّان بوجوب الإذعان للمعايير المشتركة بحسب ظروفهما. فالمنافسة ميزانها عوامل السلطان التقليدية من اقتصاد وقوة عسكرية ومنبسط إقليمي، وليست الإيديولوجية هي الميزان، فلا الصين ولا روسيا تنظران في انفتاحهما على الغرب واقتصاده. والأقطاب مجمعون على جبه الإرهاب المدمر جبهة واحدة. وينبغي فهم الاتفاق الموقت مع كوريا الشمالية، وأدت الصين فيه دوراً راجحاً، في هذا الضوء. ومسألة إيران اكثر تعقيداً. فهي اختبار دقيق لاستقرار النظام العالمي الجديد في طور نشأته. عن تييري دو مونبريال رئيس مركز دراسات استراتيجية "لوموند" الفرنسية 15 / 3 / 2007