يصرّ الشاعر محمود درويش على عدم إعلان توقف مجلة "الكرمل" عن الصدور. تكاد تمضي سنة على صدور العدد الأخير وحتى الآن ليس من عدد جديد وليس في الأفق ما يدلّ على صدوره الوشيك. لا يستطيع الشاعر أن "ينعى" مجلّة أنشأها وسهر عليها ورافقها حتى أصبحت في طليعة المجلات الثقافية العربية، على رغم يقينه الشديد أن المجلات تهرم مثل الانسان ولا بدّ لها من أن تبلغ نهايتها. يصعب على محمود درويش فعلاً أن تغيب"الكرمل"التي كانت حتى العدد الأخير وجهه الآخر أو الوجه الآخر من تجربته الشعرية، الوجه الذي يكمل وجهه الحقيقي كشاعر وشاعر فقط. هكذا أبقاها معلّقة، متوقفة ولكن من دون إعلان توقفها، ومستمرة ولكن بلا صدور. هذه الحال قد تكون الأنسب والأفضل، حال الما بين - بين. لكنها حتماً لن تبهج القراء العرب الذين دأبوا على انتظارها فصلاً تلو فصل. فرادة"الكرمل"أنها كانت فلسطينية وعربية في آنٍ واحد. كانت مجلة"الذات"والآخر، مجلة الجماعة والفرد، مجلة الذاكرة والمخيلة. وكانت علاوة على ذلك مجلة المجلات بعدما عرفت جيداً كيف تستفيد من التجارب السابقة. كأنها مجلة"شعر"معطوفة على"الآداب"وسائر المجلات الطليعية، وقد انطلقت من بيروت، بيروت الحرب وبيروت المختبر قبل أن يبلغها الاجتياح الاسرائيلي فيدمّر زمناً عربياً بكامله. لم يكن ممكناً أن تنافس"الكرمل"منذ صدورها مجلة"مواقف"لصاحبها الشاعر أدونيس، كما لم يكن ممكناً أن تنافس لاحقاً مجلة"مشارف"الصادرة في حيفا وكان أسسها الروائي إميل حبيبي. بدت"الكرمل"منذ عددها الأول مجلة مختلفة، ذات مشروع مختلف وذات تطلّع مختلف. مجلة ملتزمة ولكن في المعنى الواسع للالتزام، مجلة الثورة ولكن في الابداع ومجلة الابداع في الثورة. هذه المواصفات حملها البيان التأسيسي للمجلة في عددها الأول الصادر عام 1981 في بيروت. ولم يكن انتماؤها الى الابداع والثورة إلا انتماء الى المغامرة وانتماء الى"غد يتأسس". كان بيان المجلة بمثابة اعلان لهويتها الثقافية المنطلقة من وعي الأزمة التي كانت تعانيها الثقافة العربية حينذاك، والساعية الى مواجهتها والحالمة بتغيير الواقع."الثقافة هي صراع وأرض صراع"، يقول البيان ويضيف:"الثقافة هي حرية وفعل حرية". ولا يغيب عن البيان أن الثقافة هي"تجريب دائم"و"طليعي". قد يكون هذا البيان صالحاً لأن ينشر الآن نظراً الى حداثته وكأن ربع القرن الذي مرّ على صدور المجلة لم يزده إلا ترسخاً. وهو بيان بعيد كل البعد عن شرْك الايديولوجيا والنظرية المغلقة. لكنّ المجلة تطورت كثيراً من غير أن يلغي العدد اللاحق العدد السابق. إنها رؤية محمود درويش النافذة والمنفتحة على آفاق النص والمعرفة، إنها أيضاً رؤية الروائي الياس خوري والشاعر سليم بركات والناقد حسن خضر الذين تعاقبوا على ادارة تحرير"الكرمل". عاشت"الكرمل"التحولات التي طرأت على الثقافة العربية. وكانت انطلاقتها من بيروت الى"المنفى"القبرصي فإلى رام الله أو"ما تبقى من فلسطين"بحسب عبارة محمود درويش، أشبه بالمسار الذي شهدته الثقافة العربية نفسها. هذا الانتقال لم يكن في المكان والزمن فحسب، بل كان في الوجدان والحياة والذاكرة. لكنّ المجلة ظلت هي هي، بانفتاحها وطليعيتها وتجريبيتها. وراحت تجتذب عدداً تلو آخر، خيرة الاقلام العربية، جامعة بين المشرق والمغرب، بين العالم العربي والمنفى العربي، ومرافقة أحدث الظواهر العالمية، في الأدب والفكر والفلسفة. عندما هجرت"الكرمل"بيروت بُعيد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، بعد سنة على صدورها، واجهت أكثر من تحدّ، وكان السؤال: هل ستتمكن"الكرمل"من مواصلة خطها في نيقوسيا؟ ولم تمضِ أشهر حتى صدر العدد"القبرصي"الأول وبدت المجلة وكأنها لم تبرح بيروت، بل هي ازدادت انفتاحاً وقوة. وعندما انتقلت الى رام الله بُعيد العودة، واصلت المجلة مسارها الطليعي منفتحة على ثقافة"الآخر"التي هي الثقافة الاسرائيلية، اليسارية والمعتدلة، فأثارت قضية"المؤرخين الجدد"وقضايا الهوية والذات والتراث، وكانت مواقفها نقدية، صارمة في نقديتها. ربع قرن إذاً مضى على انطلاق"الكرمل"، ربع قرن حصل فيه ما حصل من أحداث جسام في التاريخ والجغرافيا والسياسة والايديولوجيا... كاد العالم يصبح عالماً آخر وكاد الانسان يمسي إنساناً آخر. ظل قارئ"الكرمل"وفياً لها، يبحث عنها ويدأب على قراءتها. وفيها كان يقرأ ما لم تكن تتيحه المجلات الأخرى. مجلة فلسطينية وعربية، على صفحاتها تتقاطع الثقافات والنصوص على اختلاف هوياتها. قد يكون محمود درويش على حق في اصراره على عدم إعلان توقف"الكرمل". هذه مجلة يصعب إدراجها بين المجلات"الراحلة". رصانتها المبالغ بها أحياناً لم تكن تحول دون الاقبال عليها. والملفات العميقة والشاملة التي طالما أعدتها أقرب الى المراجع التي تحفظ بحقّ. ترجماتها المهمة جعلت القارئ يطلع على ما يحصل خارج الحدود العربية. يصعب فعلاً أن نفقد عادة قراءة"الكرمل"و"عادة"انتظارها ولو في صدورها المتقطع. لتبق"الكرمل"معلّقة إذاً.