ليس من شك ، في أن الساسة يبدلون مواقفهم بدرجة أو بأخرى، على ضوء معطيات الواقع في تقلباته ومستجداته ومكانه وزمانه، وإعادة تقويمها بصورة سليمة، فهي علامة حيوية وبراعة ونضج في ممارسة السياسة. لكن المراقب يحار في مفارقات الرئيس الأميركي جورج بوش، حين يمارس التغيير الى حد ما، في مسألة محددة، هي الوضع في العراق، "المؤتمر الدولي" بمشاركة دول الجوار العراقي والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وممثلين عن المنظمات الدولية والاقليمية. والمفارقة على وجه الخصوص أن بوش كان يرفض الحديث في هذه المسألة المحددة وبالذات مع سورية وايران، وبقي موقفه على هذا المنوال حتى فترة قريبة. والمثير للدهشة ايضاً، أنه حتى عشية عقد المؤتمر، امتعض توني سنو المتحدث باسم البيت الأبيض من الإعلام، بأن هذه الخطوة سيتم تصويرها بواسطة وسائل الإعلام، على أنها تحول في السياسات الاميركية، في"حين انها ليست كذلك". في محاولة للحفاظ على الصورة الشخصية التي قدمها بوش للناس، حول إيمانه الذي لا يتزعزع تجاه وعود ومبادئ بالنسبة إليه جوهرية، والأمر الأخير تخفيف حدة الاحساس المرير بالفشل، يؤكد هذا تصريحه الأخير الواضح، من أنه"ينتظر"دعم دمشقوطهرانلبغداد. تعزز الأمر شهادة قائد القوات الأميركية في العراق، الجنرال ديفيد بتريوس في اول مؤتمر صحافي له، بعد شهر من تسلمه منصبه بالقول:"لا حل عسكرياً لمشكلة التمرد"، داعياً الى"الحوار والمصالحة". وفي الوقت ذاته الذي أعد فيه النواب الديموقراطيون، مشروع قرار ينص على الانسحاب من العراق، خلال موعد لا يتجاوز آب اغسطس 2008، وتعهد بوش بمواجهته باستخدام حقه في نقض مشروع القانون. واللافت في الشأن العراقي، أنه منذ أن سيطر الديموقراطيون على الكونغرس بمجلسيه، طرأ أول تحولات بوش، والتي بدأت بإقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ثم نشره المزيد من القوات الاميركية في ما سماه"معركة بغداد". بيد أن عبثية الحال دفعت من تبقى من حلفاء واشنطن الى جدولة انسحاب قواتهم من بلاد الرافدين، بما فيه تقليص الحليفة الأساسية بريطانيا عديد قواتها المزمع هذا العام. لقد سبق ان أعلن بوش، إثر صدور تقرير بيكر - هاملتون"مجموعة دراسة العراق"بأنه لن يأخذ به، والحقيقة أن مجرد عقد المؤتمر هو بداية تحول في تشخيص الموقف نحو ذلك التقرير، لأن بوش واصل رفضه وبما لا يدع مجالاً للبس في الحديث مع ايران وسورية في هذه المسألة المحددة، حول تطورات الوضع في العراق. والواضح ايضاً أنه تعرض لضغوط متزايدة للتخلي عن رفضه الحوار مع طهرانودمشق، حين واجهت الاستراتيجية الاميركية تعقيدات لا حدود لها، قاربت السقف المغلق. وفضلاً عن ضغوط الحزب الديموقراطي فهو يتعرض ايضاً لضغوط وتحفظات اليمين الاميركي المحافظ، التي تحولت الى الإدانة والسخط، في نموذج تعليق الباحث البارز في معهد"أميركان انتربرايز"، مايكل ايه على ذلك بالقول:"لم يسبق لي أن رأيت ادارة توجد فيها مثل هذه الهوة الهائلة، بين ما يقوله الرئيس علناً، وبين أفعاله الحقيقية، في حين أن ما يجب أن يتم هو أن تعكس التصريحات الرئاسية العامة السياسة التي تتبعها الادارة... غير أن هذا ليس هو ما يفعلونه على ما يبدو". من جانبه علق العضو الديموقراطي بالكونغرس لي هاملتون بالقول:"إن هذا التغيير ليس بالمستغرب، فما يحدث هو أن حقائق الموقف، تتضح شيئاً فشيئاً بمرور الوقت"، في اشارة الى التقرير الذي صاغه مع بيكر وحمل اسميهما. والخلاصة هي أن بوش في وضع داخلي لا يحسد عليه، بعد أن قفز عتاة اليمين من مركب الادارة، ونأوا بأنفسهم عن الفشل الذي صنعوه، فضلاً عن سخطهم عليها، في الوقت الذي يتعرض فيه بوش لنصال النبال الديموقراطية الدقيقة الاصابة، ومنها رفع الضرائب على نحو غير مسبوق، اضافة الى العبء المالي المتراكم للحرب الذي يقدمه دافع الضرائب الأميركي، واصرار البيت الابيض على الادعاء ان المواطنين لن يتأثروا بها. ان بداية الحكاية تتمثل في أن الحرب على العراق غير مبررة، وشوهت صورة الولاياتالمتحدة بسبب من السياسة الطائشة، فهي قامت على ادعاء اسلحة الدمار الشامل التي انتفت، وانتفى بعدها وجود علاقة بين العراق و"القاعدة"، حتى اعلنت الادارة الاميركية هدفها، بأن الدافع الرئيسي للاحتلال، هو وجود عسكري طويل الأمد في العراق، بهدف سيطرتها على منطقة الشرق الاوسط الغنية بالاحتياطات النفطية باعتبارها الجائزة الأثمن، ومنه حديث"الاصلاح الاميركي"وتصديره. وتحول شعار الادارة الاميركية نحو"الصراع العالمي ضد التطرف العنيف"، التوصيف الذي كان معتمداً في التصريحات التي يطلقها البنتاغون ومؤسسة"راند"في الولاياتالمتحدة، التي تصوغ نظرية"الحرب على الارهاب"، وتغيير الأنظمة في المنطقة، ومحاولات تفكيك الدولة الوطنية، واعادة رسم خارطتها بالمعنيين السياسي والجغرافي. وقد افترضت المخططات في مؤسسات البحث لليمين المحافظ، التي قرعت طبول الحرب منذ مطلع التسعينات، بأن العراق هو الخطوة التمهيدية نحو اعلان الامبراطورية الاميركية، وفي 2002 تلقى المجلس الاستشاري التابع للبنتاغون، تحليلاً لمؤسسة"راند"، يدعو الى التفكير الجاد في مصادر الأصول المالية والموارد النفطية للبلدان العربية، بدعوى دعم الارهاب وتمويله، وهذه الاستشارة لم تلق أذناً صاغية بسبب استباقها المراحل المخطط لها على أرض الواقع، وعلق حينها وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد بأنها"لا تمثل وجهة النظر السائدة في صفوف الادارة". وبعد احتلال العراق بأشهر برز مشروع"الشرق الأوسط الكبير"، وتأكيد تكتيك الخطوات، بأن الغزو هو مقدمة في اطار سياسة أوسع نطاقاً، بل وبعيدة المدى. لكن الواقع العراقي سكب ماء بارداً على الرغبة والجذوة الجامحة للمحافظين الجدد. ففي آب 2005 حول جدوى استمرار احتلال العراق، قال جون دوتش المدير السابق لجهاز المخابرات الاميركية في محاضرة ألقاها في جامعة هارفارد:"ان من مصلحة الولاياتالمتحدة الانسحاب في أسرع وقت ممكن"، وتلاه عديدون من أصحاب الخبرة في التأكيد على المطلب، حينها علق رامسفيلد من أن القوات الاميركية تحتاج الى 12 عاماً على الأقل قبل الحديث عن موعد انسحابها، وبقي البيت الأبيض يكرر قوله:"ان القوات الأميركية لن تنسحب من العراق، حتى تنجز المهمة المكلفة بها". ان أولى خطوات التهدئة في العراق هي اخراجه من براثن الاحتلال، تبدأ بقيام واشنطن بالاعلان بأن ليست لديها النية للاحتفاظ بقواعد دائمة فيه، وإرفاق ذلك بجدول زمني ملموس لسحب قواتها، ومطالبة الأممالمتحدة أن تتولى جهداً سلمياً لإعادة إعماره، واجراء محادثات مع الجهات العراقية المناوئة للاحتلال، ودخول جامعة الدول العربية ودول الجوار معها، بتبني عملية السلام وإخراج العراق من الحرب الأهلية المهلكة التي قسمت وفتت مكوناته، وبدءاً من السلطة السياسية والاقتصاد. فقضية كركوك والتطهير العرقي فيها، سببه احتكار جميع حقوق ومداخيل النفط في تلك المنطقة، الأمر الذي دفع الجنوب العراقي الى تقليد الشمال، وعليه فقد تطلب الأمر عمليات تطهير عرقي. والخطوة الثانية لتجنب الحرب الأهلية ووقفها، تقوم عملياً على ان مداخيل النفط سيتم توزيعها بالقسطاس، من خلال الموازنة الوطنية لعموم الشعب العراقي بأسره. هذا هو التهديد الرئيسي الذي يواجه استقرار العراق وقد عززت ذلك طبيعة السلطة التشريعية القائمة على ائتلافات طائفية، فواشنطن ترفع يديها عما يحدث من فساد يتناوله الإعلام العالمي، وبالذات في عائدات النفط. لقد تراجعت جهود الدولة العراقية أمام ممارسات وثقافة الطوائف الأصولية السياسية، والمحك الحقيقي لأي قانون أو دستور هو قدرته على مواجهة المشكلات والأزمات، التي يمكن أن تهز استقرار أي نظام سياسي، أو تدفع بالمجتمع الى الخلف، والمطلوب دور عربي يفتح آفاق استعادة الوحدة الوطنية العراقية، وأن تبنى على أسس ديموقراطية، تنهي ثنائية النفط والدم وتفتح آفاق تحرير العراق. * كاتب فلسطيني