تبدو الصورة الإقليمية الراهنة كالحة حقاً من حيث كثرة منابع التصادم المفضية الى حروب سياسية وأيديولوجية أو قومية أو اقتصادية أو دينية. نعرف ان العلاقات بين الأمم تشبه العلاقات بين الأفراد من حيث درجة تعقدها وتشابكها وتضادها. فالأمم كما الأفراد، تتباين او تتقاطع من حيث المعتقد الديني أو المذهبي أو من حيث اللغة ونظم القيم والتقاليد والتراث. كما تتباين من حيث درجات الفقر والثراء، تبعاً لمستويات الانتاج ونوعية الموارد الطبيعية، وتختلف من حيث طبيعة النظام السياسي بين حديثة وأخرى تقليدية، او بين نظم تسلط او نظم دستورية. لقد مرت أوروبا مهد الحضارة الصناعية الحديثة، مثلما مر معها العالم، بسلسلة من الحروب لم تنقطع: حقبة الحروب الدينية، وحقبة الحروب التجارية، فحقبة الحروب القومية ثم حقبة الحروب الأيديولوجية وكان القرنان السابع عشر والثامن عشر مسرحاً للحروب الدينية، اما القرن التاسع عشر فكان حاضنة للحروب القومية، مثلما كان القرن العشرين حاضنة الحروب التجارية والحروب الأيديولوجية. ولعل القرن العشرين هو اكثر القرون تدميراً في جانب وسعياً الى السلم في جانب آخر. ألم يشهد ذلك القرن إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى ثم إنشاء هيئة الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مثلما شهد قيام أكبر الأحلاف العسكرية والتكتلات الاقتصادية؟ وعلى رغم حروب البلقان الأخيرة فإن أوروبا أو أوروبا الغربية على الأقل لم تدخل اي نزاع عسكري بين أطرافها. لقد أرست أوروبا الغربية أسس انتهاء حروبها الدينية والقومية والأيديولوجية على قاعدة بناء سوق مشتركة اي توطيد بنيان اقتصادي مشترك ينظم التنافس بأسلوب سلمي وينمي التعاون والتكافل، وتعزز هذا البناء الاقتصادي ببناء قانوني محكمة العدل الأوروبية وبناء سياسي اللجنة الأوروبية المشتركة ولعله سيكتمل ببناء عسكري. أما على الصعيد العالمي فإن النموذج مختلف إذا انطلق من البناء السياسي الأممالمتحدة والقانوني محكمة العدل الدولية لكنه لم يركز أي بنيان اقتصادي، وعاشت الهياكل العالمية الناظمة للتنافس السلمي ودرء الحروب انقساماً شاملاً في الاقتصاد والأيديولوجيا والسياسة ما عطّل فعلها. اخترنا نموذج"صلح ويستفاليا"المبرم عام 1648 مرتكزاً لتناول العلائق الإقليمية التي تتبلور الآن في اتجاه الحروب الدينية او المذهبية، خصوصاً في وضع العراق مع جواره الإقليمي وعلائق هذا الجوار مع العراق. جاء"صلح ويستفاليا"في سنة 1648 على خلفية الحروب الدينية المتصلة بين شتى دول وإمارات غرب أوروبا وتميزت الحروب بتدخلات متقابلة في شؤون الإمارات والدول دفاعاً عن الجماعات الدينية البروتستانت والكاثوليك أو اضطهادها انطلاقاً من اعتبارات أبرزها وضع الجماعة الدينية فوق الجماعة القومية. وكان"صلح ويستفاليا"بمثابة منعطف لتحقيق ما يأتي: وقف الحروب الدينية، إلغاء وضع الجماعة الدينية فوق الدولة بذريعة حق الحماية، إلغاء التدخل المتقابل، الاعتراف بسيادة الدولة على كل اقليمها بصرف النظر عن الانتماء والمطابقة بين السيادة السياسية ورقعة الإقليم. على هذا الأساس يعتبر"صلح ويستفاليا"بداية نهج الانتقال من الاطار الواسع لما يسمى بالإمبراطورية الدينية وهي هنا الإمبراطورية الرومانية المقدسة: اقرأ الإمبراطورية العثمانية الى أطر متعددة للدول القومية لتثبيت مبدأ السيادة والاعتراف بالدول كفرد فعال، وإذ عزز"صلح ويستفاليا"مبدأ الاستقرار الداخلي من جانب فإنه لم يحل مشكلة الفوضى الدولية الناشئة من كثرة الدول الجديدة وتضاربها وتنافسها من جانب آخر. من هنا نشأت حاجات جديدة لضبط ولجم الدول القومية التي صورّها بعض المفكرين بمثابة"الولد المشاكس"او"الصبي العاق"الذي يحتاج الى تهذيب وترويض بحسب تعبير الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط، وبالطبع فإن تطوير التجارة العالمية وتكنولوجيا الاتصالات ووسائل النقل خلق الوعاء المادي لزيادة الاحتكاك والتصادم بين الدول كما خلق الأدوات لضبط وترويض الدول ذاتها في آن معاً. لا نغالي إذا قلنا أن رقعتنا الإقليمية تعاني منذ بداية القرن العشرين من مشكلة عواقب الانتقال من"الامبراطورية المقدسة العثمانية والصفوية - القاجارية"الى عالم الدول الحديثة وهي المشكلات التي عالجتها مبادئ"صلح ويستفاليا"أوروبياً. كما تعاني أيضاً من المشكلات التي حاولت مبادئ الاتحاد الأوروبي أو مبادئ الأممالمتحدة معالجتها بلجم الدول في إطار قومي، ولهذا نحن أمام تقصير مزدوج حيث ان الدول الحديثة في المنطقة لا تزال تعاني من: الحروب الدينية والحروب القومية - الإثنية والحروب الأيديولوجية والحروب الاقتصادية النفط مثلاً. حال العراق استمرت معاناة العراق منذ فترة التكوين الأولى لدى خروجه من رحم الإمبراطورية العثمانية وواجهت نشأة الدولة الحديثة فيه مشكلة الاعتراف بمبادئ السيادة الحديثة المتحققة في حضور السلطة السياسية المركزية في إدارة شؤون السكان، وإدارة الرقعة الإقليمية المحددة لهؤلاء السكان. واصطدمت الرقعة الجغرافية بدول الجوار تركياوإيران كما ان الجماعات الدينية والاثنية والقبلية المتداخلة مع دول الجوار تحولت مدخلاً أو سبباً لمطالبات إقليمية، فإيران القاجارية - الشاهنشاهية، والدولة العثمانية التي تحولت جمهورية تركية علمانية، اعترضتا على الكيان العراقي، إيران مثلاً تعتبر نفسها راعية لشيعة العراقوتركيا تعتبر نفسها ممثلا ً للأقلية التركية، بل أن الحدود الجنوبية والغربية عانت من تمدد القبائل، ودخلت في نزاعات على تمثيل الجماعات الدينية والاثنية والقبلية خصوصاً في اتجاه سورية والكويت. هذه النزاعات جميعاً تنتمي الى نموذج"ويستفاليا"وتجد جذورها في كيانات ما قبل العصر الحديث وتنطوي على عناصر استمرار تاريخي. المرحلة المعاصرة على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين واجه ترسخ الدولة الحديثة انقلابات سياسية واقتصادية واجتماعية وأيديولوجية كبرى هزت المنطقة وأدت الى تعقيد طبيعة علاقة العراق مع دول الجوار: فقد شهد النظام الدولي تغيرات حادة، بدءاً من سقوط ألمانيا النازية، وضعف فرنسا وبريطانيا، وصعود الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وانقسام العالم الى معسكرين ثم انهيار الاتحاد السوفياتي. وتغير المناخ الأيديولوجي في موجات عنيفة متعاقبة من الإسلام التقليدي الى القومية الليبرالية والعلمانية الى القومية الراديكالية واليسار الماركسي ثم صعود الإسلام السياسي في شكله الراديكالي. وشهدت النظم السياسية أنقلاباً هائلاً في أساسها وبنيتها فتحولت من النظم الدستورية البرلمانية الى نظم تسلطية عسكرية أو استبدادية تقليدية لتبدأ في عقد التسعينات رحلة نحو أشكال أولية من حكم القانون والتعددية. واتسمت عمليات بناء الأمة الحديثة بالاضطراب والتعرج نتيجة محاولات الدمج القسري للمكونات القومية والاثنية والدينية المتعددة التي تميزت بالتنوع بدل مواصلة عمليات التكامل الطوعي التدريجي على أساس المشاركة مما أدى الى اندلاع الحروب. كما تميزت المنطقة عموماً بضعف عمليات التبادل الاقتصادي والتجاري وغياب اي سوق اقليمي. وبالتفاوت الحاد في الثروة القومية وتباين كبير في الثقل الديموغرافي. وكذلك بتباين القدرات العسكرية لدولها ودخولها في تحالفات وتكتلات متعارضة. وكل ذلك في غياب فاضح للمؤسسات القانونية والدستورية على مستوى البلدان وفي الإطار الإقليمي. ولذلك نحن بحاجة الى مؤسسات على غرار ويستفاليا.