بعد اربعة اعوام من الحملة الاميركية على العراق وارتحال الحلم الشعبي بالخلاص من حكم مستبد الى مرافئ مجهولة، ما الذي يمكن ان يقال وما الذي يصعب قوله من قبيل الحق الجارح؟ لا شك ان الادارة الاميركية تتحمل المسؤولية الاساسية ازاء ما يحصل من كوارث في البلاد، ولكن ماذا عن دور العراقيين وماذا عن اشقائهم العرب والمسلمين الذين لم يكونوا بعيدين يوما عن مجريات الحدث العراقي، خاصة في تعلقهم بالنظام السابق ومواظبتهم على التحريض ضد الادارات العراقية التي اعقبت سقوطه؟ بالطبع ليس المقصود كل العرب والمسلمين وإنما الكثرة الساحقة منهم، التي ترهق اسماعنا بمفردات الجهاد الخاوي من اي مضمون انساني. وقد بلغ اهتمام العرب بالعراق ذروته حين اعدم صدام حسين، وبدوا وكأن قلوبهم القيت في حناجرهم، بل وصل الامر بأحد مشايخ الإعلام ان وصفه بالشهيد، في حين لم تحظ الارواح البريئة المتناثرة في فضاء الشهادة الحقيقية بأي التفاتة من اخوة الدم والعقيدة. ليس ذلك فحسب بل ان الضحايا العراقيين يسقطون يوميا بسلاح اشقاء لهم واجساد انتحارييهم التي تتفجر في الاسواق ومساطر العمال وأفواج زوار العتبات المقدسة وشوارع المكتبات وحتى في مجالس العزاء لعامة الناس. وفي الوقت الذي يبدي الامين العام للامم المتحدة استنكاره وادانته لجرائم الانتحاريين ضد الزوار الشيعة المتوجهين لمدينة كربلاء أخيراً وما نتج عنها من قتل وجرح المئات، لم تصدر أي بادرة اسف من الاشقاء. الاعلام العربي في معظمه مارس انتقائية واضحة في التعامل مع مآسي العراقين، وهذا ما ظهر بعد ردات الفعل القاسية التي طالت مواطنين عراقيين سنة، عقب تفجير ضريحي الامامين في سامراء، فبدأنا نسمع بفرق الموت الشيعية بعد ان تعودنا صيغة المسلحين المجهولين بدل تسميتهم بالارهابيين القتلة. ومهما يكن حجم هذه الفرق وحقيقتها فهي لا تشكل غير جزء من ماكنة الرعب الهائلة التي حرثت ارض العراق بمعاول الجحيم منذ اربع سنوات وما زالت، وما التركيز عليها الا لكون المتهمين بها هم من اعضاء الميليشيات التابعة لاحزاب سياسية ممثلة في الحكومة، اي ان استهداف العراقيين السنة لا يستثير حمية اخوتهم العرب اذا تم على ايدي ارهابيي"القاعدة"او بقايا النظام السابق، كما حصل مراراً في الانبار والموصل وبغداد ومناطق اخرى. ما يقال في وصف العراقيين انهم عاشوا متآخين سنين طويلة على رغم تنوعهم المذهبي ولم يعرفوا الفرقة الا بعد الاحتلال الاميركي، وان ما يحصل من مواجهات طائفية وتهجير متبادل ليس الا مؤامرة اميركية وربما صهيونية! غير ان ما لا يقال هو ان السياسة العليا في العراق هي التي صنعت التمايزات الطائفية وطورت وسائلها ووظفت المدافعين عنها ليزيد مجموع المستفيدين من نتائجها، وكان ذلك منذ نشأة الدولة العراقية. والاستثناء الوحيد الذي يرد في هذا المجال هو في عهد الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم. وما لا يقال ايضاً ان الرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر عارض بشدة فكرة انشاء جامعة الكوفة، وهي مطلب شعبي اريد به توسيع مساحة الثقافة في الوسط الشيعي، يوم كان الشباب في معظمه تواقاً الى الانفتاح على العالم، بعيداً عن التشدد والتعصب الذي يتمظهر هذه الايام بصور شتى، وهو لم يعارضها فقط بل أبدى امتعاضه واستغرابه من ان تجد هذه الفكرة تشجيعا لدى وزير سني عامر عبدالله كان قد التقى ممثلين عن مدينة الكوفة واستمع لمطالبهم اثناء زيارة رسمية. وما لا يستذكر كذلك التهجير المفاجئ لآلاف المواطنين الشيعة في الثمانينات والقاؤهم على الحدود الايرانية بتهمة اصلهم الايراني المزعوم، واطلاق مصطلح التبعية عليهم، الذي اخذ طريقه الى التداول الشعبي من دون ان تترك آلة النظام السابق الاعلامية فرصة للناس للتحري عن مدلولاته الطائفية والعنصرية. وتوجه أغلب هؤلاء الى سورية بحثا عن بيئة عربية تؤويهم. ولمن يقولون ان الطائفية طارئة على العراق أن يتذكروا عبارة لا شيعة بعد اليوم التي كتبت على دبابات الجيش العراقي التي ارسلت لسحق انتفاضة العام 1991 في الوسط والجنوب، ذلك الشعار الاقصائي كان من العوامل المهمة التي اسست للتدخل الايراني في شؤون العراق. واذا أضفنا تجفيف الاهوار في الجنوب وهي مورد رزق اساسي للناس، الذي صير الارض مواتا ودفع الآلاف الى ايران كلاجئين، ندرك عمق الشرخ الطائفي الذي حدث في المجتمع العراقي. وما لا تقوله الاحزاب الشيعية الممثلة في البرلمان والحكومة انها مارست نظرية الحزب الواحد في الوزارات التي صارت من نصيبها فافرغت المؤسسات من العناصر التي لا تواليها، وبالغت في استحضار الشعائر الحسينية وقراءة الادعية الطويلة حتى في الدوائر الرسمية، وبدت وكأنها اكتشفت لتوها استشهاد الامام الحسين ونسيت ان عهد صدام قد ولى ولم يعد البكاء على الحسين محظورا وانها لم تعد بحاجة الى الافراط في ابداء اعتزازها بعقيدتها مقابل عسف السلطة. وفي أجواء الارهاب اليومي قد يجد بعض تلك الاحزاب ضرورة للاحتفاظ بميليشيات ولكن ما ليس مقبولا ان تفقد السيطرة عليها او تسمح لها باضطهاد المواطنين الابرياء في طريقها للاقتصاص من الارهابيين او ان تكون لها حرية انشاء سجون خاصة كما جرى في وزارة الصحة قبل اشهر. وقد تداركت الحكومة هذا الاختراق الخطير متأخرة عندما القت القبض على وكيل تلك الوزارة وكشفت جرائمه. ما تقدم خلق حالة من التوجس والخوف لدى السنة، بخاصة ان هناك من يغذي تلك الهواجس بل ويصنعها احيانا كثيرة في المحيط الاقليمي. وما لا تقوله الاحزاب الرئيسية، عربية أو كردية، شيعية او سنية، انها بممارساتها الخاطئة وبجرائم بعضها اصبحت لب المشكلة في العراق، ما يقلل من قدرتها على اجتراح الحلول اذا لم تبادر الى التبرؤ من طائفيتها وتبدأ صفحة جديدة. ومما يبعث على التفاؤل ما نقل عن رئيس الوزراء نوري المالكي من ان هناك قائمة باسماء مسؤولين كبار ستجري محاسبتهم. وكان رئيس مجلس النواب محمود المشهداني قد اشار الى دور ايران في زيادة تدهور الاوضاع في العراق، في معرض رده على أحد النواب الذي انتقد الدور السوري. وهذا صحيح فكلا البلدين الجارين لم يوفرا جهدا للتصدي لاميركا على اشلاء العراقيين. فكلما زاد النزيف العراقي اكدت سورية صدق توقعاتها بفشل دولة الاحتلال مع ابتهاج مبطن بالحرص على عروبة العراق وسيادته، وعبرت ايران عن استعدادها لانقاذ العراق عبر مؤسساتها المنتشرة على ارضه، الاستخباراتية منها والخيرية ذات الاوجه المتعددة. فالتدخل في العراق والامعان في تأزيم الاوضاع يوفر لكل من سورية وايران فرصة الحوار المباشر مع اميركا وترتيب مصالحهما. ما يقال ايضا ان الارهاب آفة كبرى والجميع ضده، وما لا يقال ان علماء يدعون للتمسك بالدين الحنيف، وهم كثر، يصدرون الفتاوى بإراقة دماء مواطنين عراقيين، ولو اقتصر نشاط هؤلاء على مواقع الكترونية لقلنا يصعب لجمهم، لكنهم يصدحون في خطبهم ويعبئون الناس ضد اشقائهم في العراق. فلماذا يتركون طلقاء ولو انهم تفوهوا بحرف ضد حكومتهم لكممت أفواههم؟ كثيرة هي الجهات التي تدير الحرب على العراق وتمارس الشحن الطائفي. ووفيرة هي الاموال في منافي اتباع صدام ومحازبيهم، وآلتهم القتالية لا يستهان بها. لذلك فالمسؤولية كبيرة أمام رئيس الوزراء الذي وعد ببذل اقصى الجهود لانجاح الخطة الأمنية التي لا بد ان تشمل جميع المجرمين والمسيئين مهما كانت مراكزهم وأحزابهم وصفاتهم الاعتبارية التي يستندون اليها، ولتبدأ حملة لتنظيف البرلمان من المدعين بالديموقراطية والمتعاونين مع الارهابيين وكذلك من دعاة تسييس الدين. والحقيقة ان العراق بحاجة الى عملية اعادة بناء للتركيبة السياسية وليس ترقيعها، وهذا ما أشار اليه النائب اياد جمال الدين الذي اعتبر انه ليس من الخطأ الغاء العملية السياسية لأنها وسيلة وليست هدفا. وللاخوة العرب الذين لا يريدون ان يتضامنوا مع العراق، ان لا يعينوا القتلة الذين يفتكون بشعبه، فإن استوطن الارهاب أكثر في العراق فإنه سيعبر اليهم بعد حين. * كاتبة عراقية