حالفني الحظ عندما أتيح لي أن أشاهد في ليلة واحدة برنامجين فنيين من مستوى رفيع، عُرضا على قناة "بي بي سي" الرابعة. البرنامجان هما أوبرا "السيدة مكبيث من حي متزنسك" لديمتري شوستاكوفتش، وفيلم"سرباند"للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان. ليس ذلك فحسب، بل أشفع الفيلم بعرض لبرنامج بعنوان"ما وراء سرباند"، وهو حول قصة إخراج وتصوير الفيلم. كانت تلك ليلة نادرة، حققت لي متعة فائقة. فقد كنت أهتبل فرصة سماع ومشاهدة أوبرا السيدة مكبيث من مقاطعة متزنسك بفارغ الصبر، لأن مثل هذه الأوبرا نادرة العرض. وكانت لها قصة مع ستالين، الذي قيل إنه كتب نقداً لها بقلمه أو بإيعاز وتوجيه منه، ثم منع عرضها في 1936. وسأكرس هذه الكلمة للحديث عن هذه الأوبرا والملابسات التي رافقتها، مع إنني أعترف بأن متعتي بفيلم"سرباند"لبيرغمان ربما فاقت متعتي بالأوبرا. لكنني لست معتاداً على الكتابة عن الأفلام. في إحدى المقاطعات الروسية الخاملة، في القرن التاسع عشر، تشعر كاترينا، التي تنتمي الى عائلة التاجر الموسر إسماعيلوف، بالملل والإحباط من زوجها الذي لا تحبه، لكن كاترينا تقتله بسم الفئران. ولدى عودة الزوج الى البيت ومشاهدة سيرغي في مخدع كاترينا، يهرع المحبان لقتله، هو الآخر. ويخفيان جثته في مخزن البيت. ثم يقرر سيرغي وكاترينا الزواج. لكن القدر يفسد عليهما خطتهما بعد ان يكتشف فلاح سكران الجثة في المستودع. ويُقبض على الجانيين، ويرسلان الى سيبيريا مع مجموعة من السجناء. وفي سيبيريا تقع الأحداث الاختتامية لهذه الميلودراما على شاطئ بحيرة. في غضون ذلك كانت مشاعر سيرغي تجاه كاترينا قد فترت، وتعلق بسجينة تدعى سونيتكا. وفي فورة يأس ترمي كاترينا بنفسها في البحيرة بعد أن تسحب معها سونيتكا. إنها قصة ميلودرامية عادية جداً، نشرها نيقولاي ليسكوف في 1865 في مجلة"العصر"التي كان دوستويفسكي يصدرها. وفي 1930 صدرت لها طبعة جديدة في لينينغراد مزودة بصور للفنان المعروف بوريس كوستودييف. ويقال إن هذا الفنان رسم الى جانب الصور المنشورة، صوراً أخرى فاضحة لم تكن معدة للنشر. ويُحتمل أن شوستاكوفتش اطلع على هذه الصور الفاضحة، لأن ذلك يقدم تفسيراً للأوبرا الحافلة بالإثارة الجنسية. والغريب أن شوستاكوفتش كان متعاطفاً مع كاترينا، التي يُفترض أنها تتحمل الإدانة في عرف المجتمع والقيم الأخلاقية. وقد وضع شوستاكوفتش للأوبرا عنواناً جانبياً:"تراجيديا، وأهجية". التراجيديا هي كاترينا، والأهجية تتناول البقية. وذهب بعضهم الى أن كاترينا هي في كثير من الوجوه صورة لنينا، زوجة شوستاكوفتش، التي كانت متحررة جنسياً. فقد كان شوستاكوفتش منجذباً الى نينا ومتردداً أيضاً في الاقتران بها. كان شوستاكوفتش 1906 - 1975 قبل ذلك ألّف أوبرا"الأنف"، المقتبسة عن قصة غوغل المعروفة، وهي عن موظف اسمه كوفاليف يختفي أنفه بصورة غامضة، ثم يظهر في شوارع العاصمة على هيئة موظف رفيع المستوى. كانت هذه الأوبرا طليعية في لغتها الموسيقية، وغريبة في موضعها. وقد تعاون شوستاكوفتش مع الكاتب الشهير والجريء يفغيني زامياتين في كتابة نص الأوبرا. وزامياتن كان ممن شاركوا في ثورة 1905 ضد القيصرية، وانتمى الى الحزب البلشفي. لكنه، بعد مجيء الشيوعيين الى الحكم، اتخذ موقفاً مستقلاً ومتحدياً. وفي 1920 كتب روايته"نحن"، التي سخر فيها من اليوتوبيا، ومنعتها الرقابة، لكنها بقيت واسعة الانتشار بنصها كمخطوطة. وفي 1921 نشر زامياتين بيانه الأدبي الرهيب"أنا خائف"، الذي اختتمه بالكلمات الآتية، التي عرّضته للملاحقة:"إنني أخشى أن يكون المستقبل الوحيد للأدب الروسي هو ماضيه". ولا شك في أن شوستاكوفتش كان يعرف من هو زامياتين حين تعاون معه. فهذا الأخير أكد أيضاً"أن الأدب الحقيقي لا يكتبه الموظفون الخانعون والمرضى عنهم، بل المجانين، والنساك، والهرطقيون، والحالمون، والعصاة، والمتشككون". لهذا اعتبر بعضهم أوبرا"الأنف""قنبلة يدوية بيد فوضوي". وقد عرضت الأوبرا في لينينغراد 16 مرة، ثم أوقف عرضها. نعود الآن الى السيدة مكبيث. عندما عرضت للمرة الأولى في 1933، امتدحها النقاد السوفيات، وتجنبوا الكلام على عنصر الإثارة الجنسية فيها:"في الجوهر، يمكن اعتبار عقدة الأوبرا قديمة جداً وبسيطة: حب، وخيانة، وغيرة، ثم موت. بيد أن الموضوع أوسع وأعمق من العقدة، انه تعرية صارخة للوجه الحيواني لروسيا القيصرية، وفضح للوحشية، والبخل، والشهوة، والقسوة في مجتمع ما قبل الثورة". وحللها المخرج الشهير آيزنشتاين لطلبته، قائلاً:"إن الحب البيولوجي تم التعبير عنه بحيوية فائقة في الموسيقى". أما الموسيقي بروكوفييف فكان أكثر صراحة في قوله:"إنها موسيقى بهيمية ? أمواج من الشبق تنثال وتنثال باستمرار". ولم تكن الآراء التي قيلت في حقها، في الولاياتالمتحدة، أقل قسوة. فعندما عُرضت في نيويورك في 1935، قيل فيها"إن شوستاكوفتش هو بلا شك الموسيقي الأول في الموسيقى الإباحية في تأريخ الأوبرا". وقد استُفز النقاد هناك على وجه الخصوص بالمشهد الذي يمارس فيه سيرغي عمل الحب مع كاترينا بمصاحبة عزف معبر تماماً بآلة الترمبون، حيث وصفوا أي الأميركيين هذا المشهد بكلمة"pornophony"أي الصوت الإباحي. مع ذلك، أثنى جميع المثقفين في الاتحاد السوفياتي، من الاتجاهين كليهما،"الواقعي"، مثل نميروفتش ? دانشنكو والروائي اليكسي تولستوي، وپ"الطليعي"، مثل ميرهولد، وآيزنشتاين، على عبقرية شوستاكوفتش. كما ان الموسيقي الروسي المهاجر الى الغرب سترافنسكي أثنى عليها. لكن ما أثار الدولة في المقام الأول هو طغيان الجانب الجنسي في الأوبرا. وكما عبر البعض عن ذلك:"إن صوت قبلة من شأنه أن يخيفهم أكثر من انفجار قنبلة". وعندما أرسل رومان رولان رسالة الى صديقه مكسيم غوركي في إطراء"السيدة مكبيث"، كان انطباع غوركي أيضاً متعاطفاً مع الأوبرا، واعتبرها نموذجاً للفن السوفياتي الممتاز الذي يصلح تصديره الى الغرب. وكذلك كان رأي بوخارين. أما ستالين فكان له رأي آخر: استياء، وغضب. يقول سولومون فولكوف:"كان يمكن أن يشاطر ستالين غوركي في رأيه، لكنه كان يواجه أيضاً مشاكل جديدة: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية. كانت روسيا ما قبل الثورة بلداً زراعياً في الأساس، مع أمية طاغية. وأراد البلاشفة تحسين الوضع، لكن الأشياء كانت تسير ببطء. فبعض مضي عشر سنوات على الثورة، كان الاتحاد السوفياتي في المرتبة التاسعة عشرة في أوروبا في معرفة القراءة والكتابة..."، لذلك كان ستالين يفكر في فن يستلهم البساطة والوطنية في عملية البناء والتثقيف. على أي حال، في يوم 26 كانون الأول ديسمبر 1936، شاهد ستالين عرضاً لأوبرا"السيدة مكبيث من حي متزنسك"، في صحبة رفاقه المقربين: مولوتوف، وميكويان، وجدانوف. أبيض من شدة الخوف هنا يصف الكاتب ميخائيل بولغاكوف، مؤلف رواية"المعلم ومارغريتا"شوستاكوفتش بعد مشاهدة ستالين الأوبرا:"كان أبيض من شدة الخوف"، وهو في طريقه الى مسرح البولشوي، بعد أن أرسل في طلبه ليكون حاضراً الأداء. والمشكلة أن آلات القرع التي ضاعف شوستاكوفتش عددها، ليُعزف عليها مشهد عرس كاترينا، كانت تحت مقصورة ستالين ورفاقه مباشرة. فأدرك شوستاكوفتش في الحال أن الأوبرا لن يكون وقعها حسناً عند قادة الحزب. وبعد أيام اشترى جريدة"البرافدا"، ولاحظ في صفحتها الثالثة العنوان الذي صعقه:"لخبطة وليس موسيقى"، وبعده:"حول أوبرا السيدة مكبيث من حي متزنسك". فشعر كأن الأرض كانت تميد تحته، على حد تعبير سولومون فولهكوف. إن أوبراه العزيزة الى نفسه، التي نالت اعجاباً في العالم، تتعرض على غير توقع الى هجوم قاس وعنيف. جاء في هذا المقال:"إن المستمع يُصعق منذ اللحظة الأولى بسيل من الأصوات المتعمدة في لاهارمونيتها ولخبطتها. ويشعر أن نُتفاً من الألحان والعبارات الموسيقية، تغور، وتختفي، ثم لا تلبث ان تتلاشى بين أصوات من القرقرة، والصرير، والصراخ. فيتعذر عليك متابعة هذه"الموسيقى"، ويتعذر عليك تذكّرها". وان"الحب صُور على طول الأوبرا بأبشع ما يكون". وپ"ان سرير التاجر يشغل موقعاً مركزياً في العرض". واتهمت الأوبرا بأنها"طبيعية"وپ"شكلانية"... ويقول فولكوف ان هذه هي المرة الأولى التي يوجه فيها النقد الى الجانب"الاستيطيقي"، بعد أن كان يوجه الى الجانب السياسي فقط مثلاً مع بولغاكوف، وزامياتين، وبلنياك. ويقول أيضاً: أن الكثير من الوجوه الثقافية، عندما قرأوا لخبطة وليس موسيقى لا بد من أنهم ارتعدوا عندما وقفوا على العبارة الآتية"ان هذا لعب في الأشياء خارج نطاق المعقول ويمكن أن يكون مآله سيئاً جداً". وقيل ان ستالين كان صاحب المقال، أو وراء المقال بصورة مباشرة. وقابلت الأوساط الثقافية موقف السلطة باستهجان وخوف، ليس فقط على حرية التعبير، بل على مستوى الابداع الفني أيضاً، وهو ما عبر عنه الموسيقي الموسكوفي نيكولاي مياسكوفسكي بقوله:"إنني أخشى أن الإحجام عن التأليف والبدائية قد يسودان في الموسيقى اليوم". وكانت الدولة تخشى ان يعم هذا الموقف المعارض بين المثقفين:"الوجوه متجهمة في الأوساط الموسيقية". وكل المعلومات التي وصلت الى ستالين كانت تؤكد شيئاً واحداً: ان مقالات البرافدا ضد شوستاكوفتش رفضت الانتلجنسيا وسخرت منها. فاعتبر ستالين ذلك إساءة شخصية له. ثم ازداد الوضع تعقيداً عندما أعلن غوركي تضامنه مع شوستاكوفتش. وقد عُثر حديثاً على رسالة غوركي الى ستالين حول هذا الموضوع. كان كتبها من القرم حيث كان يستجم فيها، وحيث التقى هناك الكاتب الفرنسي أندريه مالرو، الذي كان شخصية بارزة في الجبهة الأوروبية المناوئة للفاشية. فقد ذكر غوركي لستالين أن مالرو أمطره بالأسئلة عن شوستاكوفتش. وكان ستالين يعلم أيضاً عن اعجاب رومان رولان بموسيقى شوستاكوفتش. وكان ستالين يكن احتراماً كبيراً لرولان. وكانت رسالة غوركي عنيفة نسبياً. فقد رفض"لخبطة وليس موسيقى"رفضاً قاطعاً، متظاهراً بأنه لا يعرف من كان وراءها. وهذا ما دعى ستالين الى التراجع، في الظاهر فقط، لكن مع المضي في مخطط الثقافة الموجهة. فالدولة لم تغمض عينها عما كان يجري في عالم الثقافة. وكان أخطر ما في الأمر مساواة الشكلانية في الفن بالثورة المضادة. ولعبت الأوضاع الداخلية والخارجية صعود الفاشية دوراً في اتخاذ هذه المواقف المتشددة. وكانت هناك ضحايا كبيرة وكثيرة، بما في ذلك تساؤلات عن غياب أو موت أو اغتيال أسماء بارزة، مثل كيروف، وبوخارين، وتوخاتشيفسكي رئيس أركان الجيش، وحامي شوستاكوفتش، بدسيسة غير مباشرة من الغستابو، وحتى غوركي، الذي بقي موته غامضاً. وبقدر تعلق الأمر بشوستاكوفتش، فقد اتخذ قراراً بالكف عن تأليف أي عمل أوبرالي آخر، بعد أن كان ينوي تأليف عمل أوبرالي ثلاثي، أو رباعي، على غرار"حلقة النيبيلونغ"لفاغنر.