لم تتوقف محاولات ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية منذ عهد لم يتسم بالزخم إلا منذ وقت قريب نسبياً، وأذكر أنني في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها للتدريس في جامعة هارفارد، اخترت موضوع "روايات القمع" معتمداً على عدد لا بأس به من الترجمات التي وجدتها متاحة، وتشمل روايات غسان كنفاني رجال في الشمس ويوسف إدريس العسكري الأسود وجمال الغيطاني الزيني بركات والطاهر وطار الزلزال وإبراهيم عبدالمجيد البلدة الأخرى وسليمان فياض أصوات وصنع الله إبراهيم تلك الرائحة وعبدالرحمن منيف شرق المتوسط، ومدن الملح. وافتقدت ترجمة روايات أخرى، كنت أرجو أن أستعين بها في التدريس لطلاب وطالبات أدب مقارن لا يعرفون العربية. وكان مشروع الترجمة الذي نهضت به الجامعة الأميركية أصدر عدداً لا بأس به من روايات نجيب محفوظ الذي يتزايد الإقبال عليها في دور التوزيع في العالم الناطق بالإنكليزية يوماً بعد يوم. ودفعني ذلك كله إلى الاهتمام بمشروع الترجمة من العربية إلى الإنجليزية الذي نهضت به الجامعة الأميركية في القاهرة، وظللت أراقب استمراره وتطوره في إعجاب، فقد ارتبط المشروع بجائزة نجيب محفوظ التي تُمنح سنوياً لأفضل رواية عربية، ويتم ترجمة هذه الرواية - بعد نيل الجائزة - إلى اللغة الإنكليزية، ونشرها من خلال قسم النشر في الجامعة الأميركية. وهي جائزة أصبح لها حضور متميز بعد أن حصل عليها روائيون وروائيات لهم وزنهم وتقديرهم، مثل: خيري شلبي المصري وكالة عطية وبنسالم حميش المغربي العلامة وإدوار الخراط المصري رامة والتنين وأحلام مستغانمي الجزائرية ذاكرة الجسد وهدى بركات اللبنانية حارث المياه ومريد البرغوثي الفلسطيني رأيت رام الله وغيرهم. وسحر خليفة عن روايتها الأخيرة صورة وأيقونة وعهد قديم التي نشرتها دار الآداب البيروتية سنة 2002. وتمضي الجامعة الأميركية، في موازاة ذلك، بإكمال ترجمة روايات محفوظ التي وصل عدد ما ترجم منها إلى عشرين عملاً، اكتملت بها ترجمة المجموعة الأولى من روايات محفوظ إلى الإنكليزية، ولها ما بعدها بالقطع إلى أن تكتمل أعمال نجيب محفوظ التي تزيد على الخمسين. وتضم هذه المجموعة بعض مختارات من أعماله في موضوع بعينه مثل مجموعة"السماء السابعة"التي تضم سرديات فوق الطبيعة التي اختارها وقدم لها ريموند ستوك الذي يكمل كتابة سيرة محفوظ بالإنكليزية، وسبق أن ترجم له مجموعة"أصوات من العالم الآخر"وپ"عبث الأقدار"وپ"الأحلام". ويتولى قسم النشر في الجامعة الأميركية تسويق هذه الأعمال على نطاق عالمي، وذلك على النحو التي أتاح وجود محفوظ بالإنكليزية في المكتبات الموزعة على العواصم الأوروبية والأميركية ومكتبات المدن الكبرى في العالم كله، ومن ثم معرفته على المستوى الإعلامي العالمي. وأصدر قسم النشر، بعد وفاة محفوظ، كتاباً مصوراً عن حياته وأعماله، يضم - إلى جانب حياته - معلومات وافية عن جائزة محفوظ في الأدب، وعن صندوق محفوظ لدعم ترجمة الأدب العربي الروائي - في وجه عام - إلى الإنكليزية، وهو المشروع الذي وصلت عدد رواياته المترجمة إلى حوالى مئة رواية مختارة من أقطار العالم العربي المختلفة، منها أعمال إبراهيم عبدالمجيد، ويحيى الطاهر عبدالله، وليلى أبو زيد، وأحمد العايدي، وإبراهيم أصلان، وهالة البدري، ومحمد البساطي، وفتحي غانم، وراندا غازي، وجمال الغيطاني، ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، وصنع الله إبراهيم، ومختارات دنيس جونسون ديفيز"تحت سماء عارية"، وتضم نماذج من القصة القصيرة في العالم العربي. وتضم القائمة - فضلاً عن هؤلاء - مختارات لكل من سعيد الكفراوي ومحمد المخزنجي، وشابات واعدات مثل بتول خضيري، وكُتَّاباً كباراً مثل إبراهيم الكوني، ورواداً مثل إبراهيم المازني، فضلاً عن مسرحية لينين الرملي"بالعربي الفصيح". وأخيرا أعمال فؤاد التكرلي وميرال الطحاوي وعبدالحكيم قاسم وحجاج حسن أدول وبهاء طاهر. في الواقع إن هذا النشاط الناجح في الترجمة يرجع الفضل في حسن إدارته إلى مارك لينز الذي يتميز بقدراته الإدارية الفائقة وسرعة الحركة والقدرة على استشعار الكتابات الجديدة التي تستحق الترجمة الفورية، كما حدث مع رواية علاء الأسواني"عمارة يعقوبيان"التي تلقفها قسم النشر وترجمها همفري ديفيز، وصدرت ضمن مطبوعاته. وتساعد مارك لينز نبيلة عقل التي تتميز بنشاطها وعلاقاتها الواسعة بالأوساط الثقافية العديدة في مصر، ومعرفتها بمداخلها الإنسانية، وتياراتها الفكرية التي لا تمايز نبيلة فيها بين تيار وآخر، ما ظلت القدرة على العطاء الإبداعي قائمة. وهي تمارس عملها منذ أحد عشر سنة حتى من قبل أن تتخرج في جامعة القاهرة، وتحصل على درجة الماجستير من الجامعة الأميركية. وتعرف نبيلة أهمية تقديم الأدب العربي إلى العالم الناطق باللغة الإنكليزية، كما يدرك مارك لينز أن العالم جاوز مرحلة الاهتمام الرومانطيقي بالشرق الأوسط والنظر إليه من منظور الاستشراق التقليدي الذي لم ير سوى الشرق الغريب العجيب الغامض، وأن الاهتمام قد تحول إلى معرفة ما يجري في الشرق الأوسط الذي أصبح مؤثراً في مجرى الأحداث العالمية، كما أصبح الغرب مهتماً اهتماماً علمياً بتحليل أوضاع الحياة في الأقطار العربية، وعلى رأسها مصر الذي يمتد تاريخها الحديث في النهضة إلى أكثر من مئتي سنة. ويلفت مارك لينز الاهتمام، في حواراته، إلى أن العالم العربي يطبع سنوياً حوالى مليون كتاب جديد، نسبة المترجم منها ما بين 01 إلى 51 في المئة، وأن نسبة هذا العدد أقل مما ينبغي، ولا يتناسب مع طموح العالم العربي، ولا مع ما يجب أن يعرفه. واستغل مارك لينز معرض فرانكفورت لتسويق الأعمال الإبداعية العربية المترجمة، التي طبعتها الجامعة الأميركية منذ ستينات القرن المنصرم، خصوصاً بعد أن أنشأت قسماً للنشر ينتج من ستين إلى سبعين عنواناً جديداً في السنة، ولا يقتصر عمله على ترجمة الأعمال الإبداعية، بل الكتب المؤلفة عن مصر وأوروبا والشرق الأوسط في مجالات كثيرة، منها: الآثار والعمارة والفنون والتاريخ والسير والدراسات اللغوية والعلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن الدراسات الدينية، وكتب الرحلات والسياحة. وأخيراً، الدوريات التي لم يصدر منها إلى الآن سوى ثلاث تتزايد أهميتها في مجال الشعرية المقارنة ألف ومجال العلوم الاجتماعية أوراق قاهرية ومجال الدراسات الإعلامية. ويؤكد مارك لينز أن هناك ما يزيد على مئة دار نشر جامعية في العالم الناطق بالإنكليزية، تبدأ من أكسفورد وكمبريدج، وتمتد إلى هارفارد وبرنستون وجون هوبكنز وغيرها من الجامعات الأميركية والأوروبية العديدة التي تنتج كل منها سنوياً حوالى ألفي كتاب جديد. وهو رقم يتطلع لينز إلى أن يصل إلى ما يقاربه قسم النشر في الجامعة الأميركية بعد تحوله إلى دار نشر، تتسع معدلات توزيعها في أوروبا التي تشتري 52 في المئة من كتب الجامعة الأميركية. وما يستحق تأكيده، في هذا المقام، أن روايات نجيب محفوظ كانت القوة الدافعة لمشروعات الترجمة في الجامعة الأميركية. وشعر أمثال مارك لينز بتصاعد احتمالات فوز أمثال نجيب محفوظ بالجائزة، فوقَّعت معه الجامعة الأميركية في القاهرة عقداً يحتكر ترجمة أعماله ونشرها عالمياً، وفي سنة 1988 كانت ثمانية من أعمال محفوظ تُرجمت إلى الإنكليزية، تأكيداً لما توقعه خبراء النشر من حصوله على نوبل، وكانت ترجمة محفوظ بداية التوسع الذي وصل إلى ترجمة مئة عمل، بعد إحدى وعشرين سنة من توقيع عقد احتكار ترجمة أول عربي يفوز بنوبل. وهو رقم يؤكد حضور الكتاب العربي المترجم إلى الإنكليزية ويعزز من مكانته التي لا تزال متواضعة، فالعالم ينشر سنوياً ملايين الكتب، تمثل الكتب المترجمة من عشرة إلى خمسة عشر في المئة من الإنتاج الكلي لصناعة النشر، وأقل نسبة في الكتب المترجمة إلى لغات العالم الحية تأتي من العالم العربي الذي لا يزال في ذيل القائمة التي لا تتيح له إمكانات الانقراء الواسعة في الدوائر القرائية اللامحدودة في العالم. والحق أن الإنجاز الذي قام به قسم النشر في الجامعة الأميركية يستحق التقدير، فهو أنجز مشروع ترجمة أكثر اكتمالاً واتساعاً وشمولاً من أي مشروع سابق، وأتاح للعديد من الإبداعات الروائية دوائر أوسع من القراء بالإنكليزية، ولم يقتصر الأمر في ذلك على الذين حصلوا على جائزة نجيب محفوظ، بل جاوزهم إلى دوائر أوسع، تتجاوب فيها التيارات والاتجاهات، وتتآزر فيها أجيال من المترجمين العرب وغير العرب. ويبرز من بين هؤلاء المترجمين والمترجمات اسمان على نحو خاص: أولهما دنيس جونسون ديفيز الذي يدين له الإبداع العربي المصري بخاصة بالكثير، فهو الذي ترجم"أصداء السيرة الذاتية"لمحفوظ، وقدمتها نادين غورديمر الحائزة جائزة نوبل، وكذلك"رحلة ابن فطومة". وأضف إلى ذلك ترجمته"بيت وراء الأشجار"لمحمد البساطي ومجموعته"المقهى الزجاجي"، كما ترجم"قنديل أم هاشم"ليحيى حقي، ومجموعة"جبل الشاي الأخضر"ليحيى الطاهر عبدالله، ومجموعة قصص لسلوى بكر، ومجموعة"تلة الغجر"لسعيد الكفراوي. وقل الأمر نفسه عن فاروق عبدالوهاب الذي تميزت ترجماته لرائعة الغيطاني"الزيني بركات"التي قدمها إدوارد سعيد و"البلدة الأخرى"و"لا أحد ينام في الإسكندرية"لإبراهيم عبدالمجيد أبرز أبناء جيله وأعمقهم رؤية، وأخيراً"الحب في المنفى"لبهاء طاهر، ورواية هالة البدري"امرأة ما"، وكلها ترجمات تستحق الإشادة والتقدير. وأعترف أنني لم أجد لناشر عربي ما أصدره قسم النشر عن حياة نجيب محفوظ وأعماله. وأهم من عناوينها العربية اللغات التي تُرجمت إليها، فلم أكن أعرف مثلاً أن"عبث الأقدار"تُرجمت - قبل الإنكليزية - إلى الكاتالانية والفرنسية والألمانية والبرتغالية والروسية والإسبانية، وأن"الثلاثية"تُرجمت إلى الصينية والسويدية والهولندية والفنلندية، وأن"أولاد حارتنا"تُرجمت مرتين إلى الإنكليزية، مرة بواسطة فيليب ستيوارت بعنوان"أولاد الجبلاوي"، ونشرتها دار"هاينمان"في لندن سنة 1981، ثم نشرتها بعد تنقيحها"دار القارات الثلاث"في واشنطن سنة 1990، وترجمها للمرة الثانية بيتر ثرو بعنوان"أولاد الزقاق"، ونشرتها دار"دبلداي"في نيويورك سنة -1996، ثم الدار نفسها بالاشتراك مع"انكور"سنة 1996، وذلك قبل أن يشتري قسم النشر بالجامعة الأميركية حق طبعها، ويطبعها فعلاً سنة 2001. وترجمت هذه الرواية الإشكالية إلى الصينية والفرنسية والألمانية والعبرية والنروجية والإسبانية والسويدية التي ظهرت ترجمتها سنة 1990، أي بعد سنتين من حصول محفوظ على نوبل. الطريف أن رواياته الضعيفة لم تجد من إقبال المترجمين ما يماثل إقبالهم على روائعه، فرواية مثل"باقي من الزمن ساعة"، وهي من أردأ روايات محفوظ، لم تترجم إلا إلى اليونانية سنة 2002، وإلى التركية سنة 1992. وبالطبع كان لجائزة نوبل أكبر الأثر على تزايد الاهتمام العالمي بترجمة نجيب محفوظ أولاً، والمبدعين والمبدعات العرب ثانياً.