ثمة مبالغة في المراهنة على حكومة الوحدة الوطنية، في شأن اخراجها الساحة الفلسطينية من الأزمة، ومن السابق لأوانه التكهّن بإمكان نجاح هذه الحكومة في ادارة الأوضاع الداخلية للسلطة الفلسطينية، في الضفة والقطاع. وإذا تجاوزنا حجم التعقيد في الأزمة الفلسطينية الراهنة، بمعطياتها الداخلية، وبتوظيفاتها الإقليمية والدولية، وبجوانبها التاريخية، والسياسية والتنظيمية، فإن التوافق على هذه الحكومة، كما هو معلوم، جاء على خلفية تصاعد الخلافات الفلسطينية إلى مرحلة الاقتتال، وفي خضم محاولة كل طرف اتهام الطرف الآخر بتبني سياسات لا وطنية، سواء بالتبعية لإسرائيل، أو بالتبعية لأجندة إقليمية، وبعد إدراك الطرفين عبثية حل القضايا الخلافية، وضمنها قضية ازدواجية السلطة، بوسائل الاحتراب الداخلي. وفي المحصلة، جاءت هذه الحكومة نتيجة جهود خارجية، وبالأخص استجابة لمبادرة من المملكة العربية السعودية، التي رمت إلى استثمار ثقلها السياسي العربي والإسلامي لوضع حد للاقتتال بين الفلسطينيين، فلملمت شتاتهم، وحققت توافقات سياسية وميدانية بينهم، على أساس من الواقع السياسي الجديد في الساحة الفلسطينية، وعلى أساس الشراكة بين قطبيها الرئيسين، فتح وحماس. يستنتج من ذلك أن عوامل الخلاف والانقسام والتوتر بين الفلسطينيين، ما زالت قائمة وقابلة للاشتعال مجدداً بكل أسف، بحكم الاستقطاب الثنائي الحاصل في ساحتهم بين فتح وحماس، وتغييب دور المؤسسات الشرعية لمصلحة الكيانات الفصائلية، وعدم الاحتكام الى الوسائل القانونية والديموقراطية في صوغ الموازين والأوضاع والعلاقات الداخلية، خصوصاً بسبب اختلاف الأجندة السياسية، والمداخلات الإقليمية الدولية الإيرانية والأميركية، التي باتت أكثر فاعلية في ظل الفوضى العارمة في الشرق الأوسط، من العراق إلى لبنان، مروراً بالوضع بين إسرائيل والفلسطينيين. واضح بالنسبة الى حركة حماس أن المراد من حكومة الوحدة الوطنية يتمثل فقط في تقطيع الوقت، وتكريس دورها القيادي في الساحة الفلسطينية، والالتفاف على محاولات تقويض هذا الدور، من أي طرف داخلي أو خارجي. ومعنى ذلك أن حماس لا تتوخّى، على الأغلب، العمل وفق قواعد الشراكة السياسية الطويلة الأمد مع فتح، لأسباب عدّة، من ضمنها أنها ليست مهيأة لذلك، وليس لديها تراث أو تجربة في العمل السياسي في هذا الإطار، وهي من الأساس تسعى الى ترسيخ قيادتها كقطب أوحد في الساحة الفلسطينية وإن تعذر ذلك الآن، لأسباب داخلية وخارجية، فعلى المدى البعيد. أما بالنسبة الى فتح، فمن الواضح، أيضاً، أن هذه الحركة وجدت نفسها مضطرة للانخراط في حكومة كهذه، في مسعى لاستيعاب حركة حماس في النظام الفلسطيني، وإبعادها من التأثيرات الإقليمية، وتليين مواقفها السياسية بما يتناسب مع المعايير الدولية في هذا المجال، وفي محاولة لإخلاء المسؤولية عن التدهور الحاصل في الساحة الفلسطينية، على الصعيدين السياسي والأمني. وبديهي أن فتح توخّت، أيضاً، في قبولها الانخراط في حكومة كهذه، التقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوضاع المنفلشة داخلها، واستعادة مكانتها في الساحة الفلسطينية. عدا عن ذلك، فإن اختلاف الأجندة السياسية بين حركتي فتح وحماس، والتوظيفات والمداخلات الإقليمية والخارجية، ستظل تضغط وتفعل فعلها، بين آونة وأخرى، وعند كل منعطف واستحقاق، للحؤول دون تحقيق توافقات سياسية مشتركة وطويلة الأمد في الساحة الفلسطينية. وإذا كانت مهمة حكومة الوحدة الوطنية تتمثل في إيجاد المناخات التي تسهم في رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني، واستئناف تدفق المساعدات الى سلطته الوطنية، وتحقيق الأمن والاستقرار للمواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وإدارة أوضاع المجتمع الفلسطيني، والحفاظ على واقع التهدئة مع إسرائيل، وتالياً لذلك تأمين الظروف السياسية المواتية لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فإن هذه الحكومة، بحد ذاتها، ستبدو عاجزة عن القيام بهذه المهام، في حال لم تتوافر الظروف الدولية والإقليمية المناسبة، وفي حال لم تتوافر الإرادة السياسية لدى قيادتي فتح وحماس، في شأن ترسيخ مبدأ الشراكة السياسية في الساحة الفلسطينية. على صعيد آخر، وكما هو معلوم، فإن التوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، اقترن بشرط تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذا الأمر يطرح الكثير من الأسئلة، من ضمنها: هل ثمة إرادة سياسية عربية ودولية لتفعيل هذه المنظمة، بعد أن تآكلت، وبعد أن غابت أو بالأصح غيّبت، لمصلحة الكيان المتمثل بالسلطة الوطنية في الضفة والقطاع؟ ثم هل تبدو قيادة فتح قادرة، أو راغبة، في المضي في هذا الاستحقاق الى نهايته، وقد خسرت موقعها المهيمن في إدارة السلطة، ما يعني أنها ربما تفرّط بقيادتها للمنظمة، وتتخلى في ذلك عن دورها القيادي في الساحة الفلسطينية؟ ثم هل ما زال لمنظمة التحرير من دور تستطيع أن تلعبه، وهي التي تنتمي إلى زمن عربي وفلسطيني مختلف، أي الزمن القومي والفصائلي؟ وهل ما زال لمجتمعات الفلسطينيين في الشتات من دور تلعبه في السياسة الفلسطينية، بمعطياتها الحالية، مع وجود كيان السلطة؟ وهل يمكن الاستمرار في تأسيس النظام الفلسطيني على قاعدة"الشرعية الثورية"، والمحاصصة الفصائلية"الكوتا"، بعد قيام السلطة على قاعدة الانتخابات، والاحتكام الى صناديق الاقتراع، وبعد كل التطورات الحاصلة في طبيعة القوى المكونة للساحة الفلسطينية نهوض فصائل وأفول أخرى؟ هكذا، يخشى الاستنتاج بأن الساحة الفلسطينية، ومع أهمية التوافق على قيام حكومة وحدة وطنية، ستظل أسيرة نظام الرأسين، والكيانين السلطة والمنظمة، ورهينة الانقسام والخصام بين القطبين فتح وحماس. كما يخشى القول ان الظروف الدولية والإقليمية والإسرائيلية بداهة لن تسمح، أو لن تسهل، استمرار التوافق بين الفلسطينيين، سواء في شأن إدارة السلطة، أو في شأن تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية"الأمر الذي بينته كونداليزا رايس في تصريحاتها الأخيرة، والمتضمنة التلويح بضرورة التزام حكومة الوحدة بشروط"الرباعية". المعنى من كل ذلك أن الساحة الفلسطينية، وفي كل الأحوال، ستبقى أسيرة أزمتها السياسية الداخلية، وهي أزمة تتعلق بعدم قدرة هذه الساحة على تجديد أوضاعها، وتطوير بناها، وترشيد شعاراتها وأهدافها، والاحتكام الى الوسائل القانونية والديموقراطية والمؤسسية، لحل أو إدارة خلافاتها وانقساماتها. كما تتعلق هذه الأزمة بعدم تمكن الفلسطينيين، على رغم تمرسهم وخبراتهم، من تحقيق معادلة تتأسس على المزاوجة بين وضعهم كحركة تحرر وطني، وبين سعيهم الى إنشاء كيان سياسي. كذلك فإن هذه الساحة ستبقى رهينة الأزمة الناجمة أيضاً عن انغلاق أفق الخيارات السياسية، سواء تعلقت بالتسوية أو بالمقاومة، بالمفاوضة أو بالانتفاضة، بسبب الاختلال في موازين القوى، والتعنت الإسرائيلي، والمعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية بما في ذلك الفوضى الناشبة في منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً بسبب الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل وسياساتها. * كاتب فلسطيني