زاويتان اثنتان من زوايا مثلث المحرمات العربية يقتحمهما الروائي السوري نبيل سليمان، في روايته الثالثة عشرة"دلعون"دار الحوار، اللاذقية 2007. وهو يفعل ذلك من خلال عزفه على وتر العلاقة التاريخية الملتبسة بين المثقف والسلطة، في عالم مرجعي يتكامل فيه القمع السياسي مع المحرّم الاجتماعي مع المقدس، وتغدو الكتابة في أي من هذه الحقول نوعاً من الاقتحام. ولعلي لا أعدو الحقيقة والواقع حين استخدم الفعل"يقتحم"للتعبير عن خوض الكاتب هذا الغمار حتى وإن لجأ الى نوع من"التقيّة الروائية"في اختيار"دلعون"عنواناً لروايته. العلاقة بين المثقف والسلطة في الرواية هي علاقة المقموع بالقامع، والضحية بالجلاد، يصطنعها الروائي لتفكيك آليات القمع على أنواعه. وطرفا العلاقة في الرواية هما جابر العتعوت رجل السلطة الملقب بپ"شلّيطا"وهي كلمة سريانية تعني"المستبد"، ودريد اللورقي الأستاذ الجامعي والروائي وكاتب المقالات. وعلى رغم ان الرواية لا تشير الى أي لقاء مباشر بين الطرفين باستثناء واحد عاصف ينتمي الى حقل الذكريات لا إلى حقل الوقائع، يتذكر فيه دريد قول شلّيطا له:"... بفضل حذاء شلّيطا سمحوا لك بأن تدرّس في الجامعة كم ساعة. وإذا لم يعينك أي... في الجامعة لن تتعين. بماذا تظن انني أمسح حذائي؟ بشهادة دكتوراه مثل شهادتك. برواية مثل روايتك..."ص12 وپ13، فإنه، وانطلاقاً من هذا التعنيف الذي يستبطن عقدة نقص إزاء المثقف، وتحكّم رجل السلطة/ المخابرات بكل مفاصل الحياة، تعكس العلاقة بين الطرفين قدراً كبيراً من التوتر والخوف وعدم الثقة والصراع الخفي والمعلن، ويتحول الخوف من السلطة ورجالها الى حال مرضية تقيم داخل المثقفين، ويكون عليهم دفع اثمان كبيرة للشفاء من هذه الحال. فمن جهة، يشكل شلّيطا تجسيداً لهذا الخوف، ولا يتورّع عن ارتكاب ما من شأنه ترسيخ هذه الصورة في النفوس، فيخشى الناس حتى من مجرد التفكير فيه، وهو لا يميّز بين قريب أو بعيد، ولا يرعى حرمة أو ذماماً، فتفرّ منه أخته الوحيدة، ويعتقل صهره لدى عودته من السفر، ويرسل عيونه في أثر المثقفين ومرتادي المطاعم وكثيراً ما نجح في فرط حلقاتهم الخائفة والإيقاع بهم، ويترصد دريد ابن خالته. ويستغل نفوذه في بناء قصره وقبره الذي غدا حديث الناس، ويمرض أو يتظاهر بالمرض، وحين تضطره الصراعات الى السفر يفعل ذلك تحت جنح الظلام من دون ان يودع امه بكلمة. ويكون من نتائج تسلطه ان يختار المثقف بين الهجرة والصمت والتوقيف والتحوّل الى موظف أبكم. على ان حضور هذه الشخصية في الرواية لا يتم في شكل مباشر، بل هو حضور غير مباشر يتمثل بسمعته السيئة، والخوف منه، وفساده، وتنكيله بالآخرين، وعيونه وآذانه، ومرضه أو تمارضه، وسفره خلسه. وهذا الحضور يناسب مهمة رجل المخابرات الديكتاتور وما تقتضيه من غموض وتخفّ واحتجاب ما يجعل منه أسطورة وفزاعة تخيف كل ذي رأي وفكر. وهكذا، تعتبر شخصية شلّيطا شخصية شبحية تختفي لتظهر أفعالها، بينما الآخرون يظهرون فعلياً على مسرح الرواية ويفتقدون المبادرة والفاعلية. ومن جهة ثانية، يمثل دريد اللورقي الملقب"بالست فضيحة"شريحة المثقفين في الرواية الطرف الآخر في جدلية الصراع الخفي والمعلن مع السلطة. ودريد هذا هو أستاذ جامعي وروائي وكاتب مقالات، وهو الشخصية المحورية في الرواية تتمحور حولها الأحداث وتنوجد الشخصيات الأخرى في ضوء علاقاتها بها. على ان هذه الشخصية، على محوريتها، ليست شخصية مثالية نموذجية للمثقف الملتزم، المناضل، البطل. بل هي على قدر كبير من الواقعية. هي شخصية من لحم ودم، تخاف، تمارس التقيّة، لا تقيم وزناً للاعتبارات المبدئية/ الأخلاقية في علاقاتها بالآخرين حتى وإن كانوا من الأقرباء، وتعاني ازدواجية معينة فكأن فيها شيئاً من شلّيطا. ولذلك، فإن دريد المثقف الذي يخاف شلّيطا ويرفضه في قرارة نفسه ويجاهر بذلك في مناسبات معينة هو نفسه يستعين به للحصول على عقد تدريس في الجامعة، وهو الذي لا يتورع عن إقامة العلاقات العابرة مع زوجة أخيه ما يقيم تناقضاً بين أدائه السياسي وأدائه الاجتماعي، فرفضه السلطة وممارساتها ينتقص منه انغماسه في الملذات على أنواعها، وفي طليعتها الشراب والجنس. وهو، الى ذلك، يفتقر الى جذرية المثقف الملتزم فيصفه اخوه في الرواية حمزة عبدالرؤوف بأنه"فطوطة من حضن الى حضن، صيصاني لا مسلم ولا نصراني، يتمسك بقشور الماركسية والقومية والإسلام. ذكي ومثقف. سطحي وعميق في كتاباته. ينقصه الجد". وبعيداً عن المحاكمة الأخلاقية لهذه الشخصية، وهي محاكمة لا تصح في النقد، لعل الحصار الذي تمارسه السلطة على دريد وأمثاله، فتترصدهم في سهراتهم، وتحصي عليهم أنفاسهم، وتتربّص بحركاتهم وسكناتهم هو ما يدفع دريد الى ممارسة دور زير النساء، فيأتي الجنس تعويضاً عن السياسة، وتقوم حرية العلاقات الجنسية مقام حرية التعبير وإبداء الرأي، ذلك ان الكبت لا بد ان يجترح متنفساً له وتصريفاً للطاقة المكبوتة وإن لم يكن ما جرى تصريفه من نوع ما جرى كبته. وهذه الملاحظات تدخل في إطار التفسير لا في إطار التبرير. وفي مواجهة آليات القمع التي مارسها شلّيطا ومشتقاته على دريد وأمثاله، كان على هؤلاء ان يجترحوا آليات الدفاع عن وجودهم وحقهم في التعبير. وهي آليات تتراوح بين الرفض الداخلي والرفض العلني، وتتنوع وتختلف من مثقف الى آخر، فبدءاً من رفض منكر القمع بالقلب وهذا أضعف الإيمان، مروراً برفضه باللسان في حلقات ضيّقة وسهرات دورية، وبتنظيم الأطر الحزبية المعارضة المنقسمة على نفسها، وبالكتابة الكتابية والشفهية، أو بالبكامة، وصولاً الى الندوات خارج الوطن، تتعدد آليات الدفاع من قبل المثقفين لكنها على تعددها تبقى قاصرة عن إحداث التغيير في سلوك شليطا وإضرابه في فضاء واقعي/ روائي يعتبر فيه القمع المخابراتي التيمة الرئيسية للعلاقة بين السلطة والمثقف. ولعل هذا ما يفسر ان دريد لم يجهر بنقد شليطا وشتمه والسخرية منه إلا عندما اصبح خارج الوطن في الشارقة، حتى انه عندما قام بذلك كان شبح شليطا يطارده فإذا ما عاد الى بلده جرى توقيفه بعض الوقت، وهنا لجأ الى آلية الحكاية لمواجهة التوقيف وهي آلية استخدمتها شهرزاد في"الف ليلة وليلة"في مواجهة سلطة شهريار. على انه كما آلت احداث"ألف ليلة وليلة"الى نهاية ايجابية، جاءت نهاية"دلعون"المتمثلة بسفر شليطا خلسة من دون وداع امه، وبالتقاء دريد وابنة خالته دلعون اخت شليطا عند قبره وممارستهما الكلام والنوم دون خشية منه، وبالتقائهما في بيت الأهل وممارستهما الجنس، جاءت هذه النهاية لتستشرف ربما حتمية زوال القمع واستئناف الحياة من حيث تعطّلت ونجاح علاقة الحب التي كانت معلقة في زمن شليطا. وبعد العلّة من الطبيعي التساؤل عن العلاقة التي تربط الروائي بالراوي الأساسي في الرواية. اين يلتقي نبيل سليمان مع دريد اللورقي وأين يفترقان؟ وفي الإجابة على هذا التساؤل نستنتج من المؤشرات النصية والنذر اليسير الذي تناهى إلينا من سيرة الكاتب ان سليمان واللورقي كليهما مثقف وكاتب روائي وناقد، وأن كليهما مولود في برج صافيتا قرب اللاذقية، وأن لكليهما رواية بعنوان"الشقائق"، وأنهما عانيا من السلطة، وأن كلاً منهما تفرّغ للكتابة. اما اين يفترقان فتلك مسألة تتعدى الإجابة عنها اهتمام هذا المقال. هذه الحكاية صاغها نبيل سليمان بخطاب روائي يتناسب مع العالم المرجعي الذي يحيل إليه، وهو خطاب يتميز بتعدد الرواة، فإلى جانب الراوي العليم ثمة دريد وحمزة ودلعون وسواهم، ولكل من هؤلاء"روايته"ضمن الرواية حتى ان القرية هي احد الرواة، والعلاقات بين الروايات/ الحكايات المختلفة بتقاطعها وافتراقها هي ما يُشكّل الرواية. ويتوزع الخطاب بين السرد والحوار، اما السرد فيترجح بين الوقائع والذكريات، بين الخارج والداخل. ولعل انكفاء السرد الى الداخل واستخدام التداعي والمونولوج والأحلام يتناسب مع العالم المرجعي الذي يشيع ثقافة الصمت ويحرّم الى حد كبير ثقافة التواصل بين الوقائع الخارجية. وهذا السرد يشغل مساحات أوسع بكثير من الحوار ما يلائم الواقع الذي ترصده الرواية حيث يعتبر الحوار من الممنوعات. اما الحوار في الرواية فكثيراً ما يكون احادياً يفتقر الى الطرف الآخر الذي يؤثر الصمت على الكلام، وقد يحدث في ذهن الشخصية فتحاور نفسها او تحاور صورة ما يشي بأنه عندما يضيق الحصار على الناس ينكفئون الى الداخل اتقاء لخطر يتربص بهم، وكأن الشخصية تخاف من صوتها فلا تجرؤ على رفعه خشية من آذان"شلّيطا"وعيونه. وإذا كانت لغة السرد تراوح بين التصويرية والحركية والمباشرة، وتقع في المنطقة الوسطى بين السردية والأدبية، فإن لغة الحوار تقترب من المحكية، وتستخدمها احياناً، ولا تتورع عن استخدام عبارات ومفردات نابية ما يمنح الحوار واقعيته وحرارته ويعطي صورة واقعية عن الشخصية والواقع. وهكذا، يكون الخطاب مكمّلاً للحكاية، وتشكّل"دلعون"اثراً روائياً شجاعاً لا يتورّع فيه نبيل سليمان عن اقتحام الممنوع والمحرّم وملامسة المقدس، وهي الزوايا الثلاث في مثلث المحرّمات العربي التي يتهيّب كثيرون الاقتراب منها.