انتهت المفاوضات حول الملف النووي الكوري الشمالي التي عقدت في بكين بنتائج تخالف تماماً ما كان يتوقعه المراقبون عند بدئها، رغم أنه كان هناك الكثير من المؤشرات الى أن كلاً من كوريا الشماليةوالولاياتالمتحدة مستعدتان لدرجة معينة من المرونة. وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاق لم يعلق عليه البيت الأبيض إلا بعد ساعات عدة، إذ أكد المتحدث باسمه سعادته الفائقة بهذا الاتفاق واعتبره نصراً للديبلوماسية الأميركية وحذر من أن عدم تنفيذ كوريا الشمالية لالتزاماتها في هذا الاتفاق سيؤدي إلى استمرار العقوبات الدولية عليها. ويتضمن الاتفاق الذي توصلت إليه الدول الست صفقة شاملة تتضمن ثماني نقاط: 1- تتعهد كوريا الشمالية بأن تغلق خلال ستين يوماً مفاعلها النووي الرئيسي في بيونغ يانغ تمهيداً لتخليها عن طموحاتها النووية. 2- التزام كوريا الشمالية بالسماح للمفتشين الدوليين بالتحقق من إغلاق الموقع النووي. 3- تقدم كوريا الشمالية بياناً كاملاً ببرامجها النووية وتتعهد بإبطال مفعولها في كل المحطات الحالية. مقابل هذه الالتزامات الثلاثة تضمنت النقاط الرابعة حتى السابعة المقابلة لهذا الالتزام وهو حصول كوريا الشمالية على الطاقة والغذاء والمعونات الأخرى بما يقدر بحوالي 950 ألف طن من النفط الثقيل على أن تتم مناقشة تفاصيل المعونات في الجولة التالية من المفاوضات في 19 /3/ 2007، كذلك يقدم الاتفاق عدداً من الحوافز الديبلوماسية والسياسية لكوريا الشمالية، وتلتزم الولاياتالمتحدة ببدء محادثات ثنائية لتطبيع العلاقات معها ورفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات التجارية الأميركية من دون الإشارة إلى العقوبات الدولية المفروضة بقرار من مجلس الأمن ومن دون تحديد جدول زمني لهذا الالتزام، كذلك تضمن الاتفاق أن تبدأ محادثات مماثلة بين اليابانوكوريا الشمالية لتطبيع العلاقات. أما في ما يتعلق بالضمانات الأمنية وبخاصة إبرام اتفاق بعدم الاعتداء المتبادل بين كوريا الشماليةوالولاياتالمتحدة، فإن الاتفاق قدم حلاً بديلاً وهو أن يتم عقد مؤتمر دولي بعد ستين يوماً من إبرام الاتفاق تشارك فيه جميع الدول التي كانت أطرافاً في اتفاقات جنيف عام 1953 والتي أنهت الحرب في شبه الجزيرة الكورية على أن يقوم هذا المؤتمر بإنشاء آلية جديدة للسلم في جنوب شرقي آسيا. وأخيراً تضمن الاتفاق إنشاء خمس مجموعات عمل لهذه المواضيع الخمسة وهي: نزع سلاح كوريا الشمالية النووي، العلاقات الكورية - الأميركية، العلاقات اليابانية - الكورية، التعاون الاقتصادي، ولجنة آلية الأمن والسلام في جنوب شرقي آسيا. ولا شك أن العالم كله رحب بهذا الاتفاق على أمل أن يزيل بؤرة خطيرة من بؤر التوتر والتهديد للأمن العالمي، ولكن الاتفاق يثير عدداً من المسائل المهمة، أولاها الأسباب التي دفعت كوريا الشماليةوالولاياتالمتحدة إلى هذا القدر من التقارب الذي سمح بإبرام الاتفاق رغم تباعد المواقف نتيجة عدم الثقة التي تشعر بها كوريا الشمالية تجاه الولاياتالمتحدة. يبدو أن هناك عدداً من الضمانات التي قدمتها الصين وروسيا لطمأنة كوريا الشمالية إلى أن الولاياتالمتحدة لن تقوم على الأقل بمهاجمتها وأن فكرة تدمير المنشآت النووية الكورية ليست واردة في الاستراتيجية الأميركية. أما المسألة الثانية فهي أن الاتفاق يعكس رغبة واشنطن في تهدئة كل الساحات حتى تتفرغ للمواجهة مع إيران، ومعنى ذلك أن واشنطن قدمت تنازلات حتى يتسنى إبرام هذا الاتفاق وأنها قد لا تكون جادة في تنفيذه بعد ذلك مما يشير إلى احتمال تعثر الاتفاق ولكن بعد ان يكون قد أدى هدفه وهو تفرغ الولاياتالمتحدةلإيران. المسألة الثالثة هي ان هذا الاتفاق يعتبر بالفعل انتصاراً للديبلوماسية الأميركية ولكنه يعتبر بشكل أكبر انتصاراً للديبلوماسية الصينية وكذلك لكوريا الشمالية. المسألة الرابعة هي ان هذا الاتفاق حتى لو كان اتفاقاً تكتيكياً من وجهة أميركية فإنه سيؤدي إلى آثار إيجابية في المنطقة وبخاصة في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني. صحيح أن الملفين الكوري والإيراني لهما خصوصيات مستقلة ولا يجمع بينهما سوى أنهما يناهضان الولاياتالمتحدة، وأن كلاً من كوريا الشماليةوإيران يقعان في منطقة مختلفة لها حسابات متفاوتة إلا أن هذه التسوية قد تعد نموذجاً لما يمكن أن يقدم لتسوية الأزمة النووية الإيرانية، ولكن هذا الافتراض يقوم على افتراضين آخرين: الأول هو أن الولاياتالمتحدة تريد تسوية الملف النووي الإيراني تسوية سلمية لأن إسرائيل تلح على إزالة قدرات ايران النووية بطريقة عسكرية لأن الاتفاق معها سوف يعني التسليم بدورها الاقليمي. أما الافتراض الثاني فهو أن الولاياتالمتحدة لم تتساهل في الملف الكوري لتحييد العوامل الأخرى التي تصرفها عن المواجهة مع إيران، ورغم كل ذلك فإن الآثار الإيجابية لهذا الاتفاق وحماس الصين وروسيا لتطبيقه على الملف النووي قد يكون عامل ضغط جديد على الولاياتالمتحدة في إطار مساعيها في مجلس الأمن ضد إيران، وذلك بسبب المصالح الاقتصادية لكل من الدولتين مع إيران ولفترة زمنية مقبلة تصل لربع قرن. من ناحية أخرى لا شك أن هذا الاتفاق نزع فتيل الأزمة الصامتة بين الولاياتالمتحدةواليابان، لأن اليابان بدأت تدرك أن الحماية النووية الأميركية لها ليست فعالة وأن البديل هو التسلح النووي الياباني وهو أمر مخيف بالنسبة الى الولاياتالمتحدة ويذكرها بهواجس الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أن هناك شعوراً انتقامياً لدى اليابانيين مما حدث لهم وإدراك الولاياتالمتحدة قد يؤدي إلى التقارب بين الصينواليابان ويغير من حسابات القوى على المسرح الآسيوي. وأخيراً فإن الاتفاق مع كوريا الشمالية لا بد أنه خيب أمل إيران التي كانت تعول كثيراً على التضامن الكوري معها في أي مواجهة مع الولاياتالمتحدة ولا بد أن إيران ستعيد حساباتها على هذا الأساس. * كاتب مصري