من المبكر الحديث عن نتائج حاسمة تمخضت عنها الجولة الاخيرة من حرب القرون الوسطى التي يخوضها اللبنانيون امام عدسات الكاميرات. لكن بعض الملاحظات قد تكون مفيدة في تحديد السياق الذي سيطبع الجولة القادمة بطابعه. اول هذه الملاحظات يتعلق بالانقلاب الأهلي الحاسم على حصرية سلاح"حزب الله". فبعد الجولة الاخيرة في شوارع بيروت وفي منطقة الجامعة العربية لم يعد حق"حزب الله"في حيازة السلاح واستعماله حقاً حصرياً. وبات المزاج الشعبي العام في الوسط السني والدرزي فضلاً عن المسيحي داعياً إلى الحض على حيازة السلاح في مواجهة التسلح الذي تنعم به طائفة دون غيرها في البلد. وبهذا المعنى فإن التذكير المستمر لقادة"حزب الله"بأن الحزب المذكور لن يستعمل سلاحه في الداخل اللبناني يهدف في وجه من وجوهه إلى نفي صفة الشرعية عن اي سلاح اهلي آخر في مواجهته. لكن المزاج العام في الشارع المواجه ل"حزب الله"وحلفائه لا يرى في هذا التأكيد ما يطمئنه اصلاً. حيث اظهرت خطة"حزب الله"في السيطرة على مفاصل بيروت الحيوية يوم 23 كانون الثاني يناير طبيعتها العسكرية البحت، واستقواءها بالتنظيم الحديدي الذي يحكم سلوكات مقاتلي"حزب الله". فما جرى في ذلك اليوم افصح من دون لبس عن آلة عسكرية منظمة قامت بالتحضير للإضراب وقطع الطرقات وتنفيذه، وبصرف النظر عن الأسلحة المستعملة في هذه الخطة، فإن انتشار العصي بدلاً من قاذفات القنابل والرشاشات الخفيفة والمتوسطة وراجمات الصواريخ لا يلغي واقعة ان الهجوم كان عسكرياً ويخضع لتراتبيات عسكرية لا سبيل لانكارها. مما يعني ان مواجهة خطة من هذا القبيل تفترض بالطرف الآخر ان يعمد إلى تدريب مناصريه ومحازبيه وتنظيمهم في تشكيلات شبه عسكرية، وبين هذا الإجراء واشهار السلاح ليس ثمة اكثر من شعرة ضعيفة متهالكة. الملاحظة الثانية تتصل بالأولى وان كانت نتائجها ابلغ خطورة منها. إذ ادت الاشتباكات الاهلية التي اندلعت في منطقة الجامعة العربية من بيروت إلى تعطيل سلاح الجماهير الذي استعمله الأفرقاء اللبنانيون حتى الاستنفاد في العامين الماضيين. فلم يعد وارداً في ذهن قادة"حزب الله"ولا في أذهان غيرهم الدعوة إلى احتشاد شعبي كبير في شوارع بيروت. ذلك ان الجماهير التي كانت تستجيب بمئات الألوف لدعوات القادة السياسيين للتظاهر في شوارع بيروت، انما كانت تستجيب بوصف التظاهر مأمون العواقب، وليس اكثر من نزهة إلى وسط بيروت تعقبها عودة سالمة غانمة إلى البيوت والمدارس ومزاولة الاعمال. اليوم لم يعد ثمة اب يستطيع ان يحمل اطفاله وزوجته وخادمته على المشاركة في تظاهرة قد تعقبها حرب بالعصي والخناجر بين جمهورين محتشدين. لقد طُرد جمهور"حزب الله"من عاصمة لبنان، ولم يعد ثمة مجال لعودة هذا الجمهور على اي وجه من الوجوه. مما يعني ان التظاهرة المقبلة في شوارع بيروت ستضم في عدادها خيرة المقاتلين المجربين والمدربين فقط ومن دون استثناء. والحال، فقد وصلت الأزمة اللبنانية في طورها الراهن إلى الحد الذي لا يعود معه الحديث عن استخدام السلاح في الداخل مبعداً لشبح الحرب الاهلية. فالموت ضرباً بالعصي ليس اكثر رحمة من الموت برصاص القناصين، وهذا في حد ذاته ضرب من الحروب الأهلية اكثر عنفاً وقسوة من تلك التي خبرها لبنان في اعوامه الحالكة في الربع الأخير من القرن الماضي. لقد انتج النبذ اللبناني لاستعمال السلاح في النزاعات الداخلية نمطاً من حروب القرون الوسطى تلائم ايما ملائمة التشكيلات السياسية اللبنانية المتخلفة عن اي اتصال بأي حداثة من اي نوع. وفضيلة هذا التحول الوحيدة انه يضع القوى السياسية اللبنانية في موقعها الحقيقي والفعلي. فهذا النمط من القوى السياسية يليق به تماماً ان يتقاتل بالسيوف والعصي والحجارة، ذلك ان التخلف ناقل عدوى ويجدر به ان يصيب كل مناحي الحياة بما فيها اسلحة القتل وتكتيكات المعارك. * كاتب لبناني