لم تعد محال الفول والفلافل والكشري أشهر متاجر الأحياء الشعبية في القاهرة، بعدما تسلّلت اخيراً مهنة تركيب العطور لتفسح لنفسها أماكن للبيع في هذه الأحياء. بيع العطور المركبة في القاهرة عُرف منذ أكثر من ستين سنة. وحي "الصاغة" المتاخم لمنطقة خان الخليلي، شاهد على عتق تلك المهنة التي استقبل زبائنها ومحترفيها من العائلات المصرية التي اتخذت من تركيب العطور مهنة لها أباً عن جد، كما هي الحال مع عائلة الحناوي. حتى السياح وصورهم تؤرشف لازدهار ذاك الشارع الذي كانوا يقصدونه من كل حدب وصوب، لشراء العطور الشرقية مثل المسك والعنبر. لكن مهنة تركيب العطور لم تعد حكراً على شارع أو عائلة، بل توسّعت وانتشرت لتصل الى المراكز التجارية الكبرى. وسرعان ما لحق بها كثيرون من الشبان المصريين العاطلين عن العمل، خصوصاً أبناء المناطق الشعبية، ونقلوا بيعها إلى أحيائهم. لمَ لا والأمر لا يتطلّب مشقّات ولا رأس مال ضخماً ولا شهادة خبرة أو تخصّصاً. يكفي محل صغير يحتوي على طاولة مكدسة بزجاجات عطر فارغة من الماركات العالمية، إضافة إلى حقنة طبية تستخدم لضخ العطر المركزّ في الزجاجة التي يكون البائع ملأها سابقاً بعطر خفيف أو ملليمترات من الكحول سبيرتو والمياه. أما عن جودة المواد وصحيّتها، والتي يباع منها يومياً أكثر من زجاجات المياه المعقّمة، فحدّث ولا حرج، إذ لا تخضع تلك المتاجر والمواد المنتشرة في غالبية شوارع القاهرة الشعبية وتحت المباني العشوائية، لأي نوع من التفتيش أو الاشراف من وزارة الصحة. لكن على رغم تأكد المستهلك أن تلك العطور ليست مستوردة من الغرب وأنها معبّئة على يد من لا مهنة لهم، يحاول مركّبوها إقناع زبائنهم أن ال"إيسّانس"أو العطر المركّز مستورد من السعودية وباريس ولندن وأخواتها. هذه الحرفة السهلة المنال لم تساهم في حل مشكلة البطالة لدى الشبان المصريين، الذين يتسابقون على تقليد بعضهم البعض في فتح هذه الأكشاك والمحال"العطرية"، لكنها أضفت على سكان المناطق الشعبية لمسة خاصة وانتزعت رغبة جديدة من داخلهم لم تكن تخطر لهم ببال وهي"التعطر"التي ما كان لهم ان يحلموا بها نظراً الى حياتهم المطحونة وضيق ذات اليد. فأسعار العطور من الماركات العالمية كانت تستفزهم إذا خطرت اصلاً ببالهم، لأن سعر الزجاجة الواحدة منها ربما يمثل اجمالي دخل الأسرة في شهر ما لم يكن في شهور عدة! لاقت العطور المركبة رواجاً في تلك الأحياء الشعبية حيث يقل سعرها عن مثيلاتها التي تباع في محال تركيب العطور في المراكز التجارية والأحياء الراقية، فسعر زجاجة العطر تتراوح ما بين عشرة الى عشرين جنيهاً فقط. كما باتت منافساً قوياً"تجذب زبائن تلك المراكز في الأحياء الراقية، بعدما جربوا الشراء وتأكدوا من جودة وثبات عطوره وان اسعاره الأقل لم تقابلها جودة أقل"كما أوضح أحد الباعة. وعلى غير المتوقع فإن زبائن العطور المركبة في الأحياء الشعبية يميلون الى العطور الغربية أكثر من العطور الشرقية، وإن كان بعضهم يطلب تركيبة خاصة تضم النوعين.