عندما ألقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كلمته في منتدى"دافوس"الشهر الماضي، اكتشف الحاضرون ان القضية الفلسطينية بلغت أقصى مراحل اليأس والقنوط. قال ان 79 في المئة من سكان غزة يعيشون تحت خط الفقر، وان المواطن الفلسطيني لا يحصل على أكثر من 800 دولار طوال السنة، مقابل دخل الفرد الاسرائيلي المتجاوز ال20 الف دولار. وحذر أبو مازن الدول المعنية من خطورة الانهيار الكامل بسبب الحصار الاقتصادي وإقفال المعابر ودمار البنى التحتية وارتفاع عدد الأسرى الى أكثر من عشرين ألف شخص. واشترط الرئيس عباس للخروج من مأزق الأزمة الأخيرة، تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على انهاء النزاع وإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967. واعترف في نهاية كلمته بأن كل خطوة أحادية الجانب وكل اتفاق جزئي لا يؤدي الى حل، معناه الدخول في نفق جديد وتسليم الحكم للميليشيات المحلية. فسّر المراقبون في"دافوس"كلمة الرئيس عباس بأنها صرخة استغاثة صدرت عقب زيارات فاشلة أمضاها متنقلاً بين رام اللهوالقاهرةوعمانودمشق. ولكنه وجد الفرج في اتفاق مكة، الذي جسد فكرة المشاركة في السلطة بين الفصائل الاسلامية حماس والجناح العلماني فتح. ومع ان الاتفاق بين الفريقين المتنازعين حدد شروط المشاركة في الحكومة والحكم، إلا انه اراح"حماس"من ثقل الضغوط الخارجية لكونها دخلت في عملية التسوية من دون التخلي عن مواقفها الايديولوجية. وهذا ما أقلق الحكومة الاسرائيلية التي حذرت اللجنة الرباعية الدولية من السقوط في فخ الاعلان الغامض لصيغة المشاركة. وتفادياً لهذه العقبة اتفق الفريقان على ضرورة اعتماد وثيقة الوفاق الوطني اساساً للشراكة السياسية وتعاون الأجهزة الأمنية. ورأى الفلسطينيون في ضمانات الوثيقة افضل برنامج سياسي يمكن طرحه كمدخل للمفاوضات المرتقبة. التحفظ الاسرائيلي على اتفاق مكة قوبل بالاستهجان من قبل معلقين أميركيين انتقدوا ايهود اولمرت بسبب إصراره على عقد سلام مع حكومة فلسطينية تستبعد"حماس". وكتب هنري سيغمان، عضو مجلس العلاقات الخارجية يقول:"ان حركة حماس ليست ظاهرة عابرة يمكن القضاء عليها بقوة السلاح، وانما هي مثل"فتح"قوة اساسية في المجتمع الفلسطيني. وفي حال تهميشها فقد تضطر للجوء مرة ثانية الى العمل السري من خلال استئناف العمليات الانتحارية والهجمات الصاروخية". في اللقاء المتوقع الاسبوع المقبل بين محمود عباس وايهود اولمرت وكوندوليزا رايس، سيعرض الرئيس الفلسطيني حصيلة اتفاق مكة، وما اتفق عليه مع زعماء"حماس"حول البرنامج الهادف الى تحقيق السلام. ويتضمن الاتفاق بشأن خطاب التكليف"دعوة الالتزام الوطني بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وصون حقوقه، والعمل على تحقيقها استناداً الى قرارات المجالس الوطنية ووثيقة الوفاق الوطني وقرارات القمم العربية واحترام قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير". يقول مدير الاستخبارات المصرية عمر سليمان، ان نصوص اتفاق مكة تشمل كل الضمانات المطلوبة لفتح باب التفاوض. ذلك ان محمود عباس كان أحد أبرز الموقعين على"اتفاق أوسلو"باسم منظمة التحرير. وعندما تعلن"حماس"احترامها للاتفاقات الدولية السابقة والقمم العربية، فإن هذا التعهد يلزمها تأييد المبادرة السعودية التي طرحت في قمة بيروت العربية، والتي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية. قبل انتقال الفريقين الى مكةالمكرمة، اختلفا أثناء المحادثات التمهيدية، على صوغ عبارة لا تحمل في ديباجتها بذور التفجير. وتلخص الخلاف في العبارة القائلة: تطالب"حماس"بأن يتضمن كتاب التعيين الموجه الى الرئيس المكلف ايضاحاً بأن الحكومة ستعترف بالاتفاقات التي تخدم الشعب الفلسطيني. ويبدو أن محمود عباس رفض التقيد بهذه الصيغة الملغومة، لاعتقاده بأن"حماس"قد تستغلها للانسحاب عند أول منعطف بذريعة أن هناك اتفاقاً معيناً لا يخدم المصالح الفلسطينية. لذلك استعيض عن هذه الصيغة بأخرى تقول:"تحترم حماس الاتفاقات التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع اسرائيل من دون الالتزام بها". ومعنى هذا ان الموافقة كما عبرت عنها الصياغة الجديدة تعفي"حماس"من دفع الاستحقاقات المترتبة على تبدل موقفها الايديولوجي بحيث تبقى لكل فصيل قناعاته، كما قال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي ل"حركة المقاومة الاسلامية". في هذا السياق، يبرز السؤال المتعلق بالأسباب الحقيقية التي دفعت زعماء"حماس"الى القبول بتحقيق سلام فلسطيني - فلسطيني، وما إذا كانت هذه الموافقة تعكس صورة التبدل في مواقف ايران وسورية؟ يرى المراسلون في رام الله ان التحول بدأ عقب التظاهرات الضخمة التي شهدتها غزة ومدن الضفة الغربية، كرد فعل على إعدام صدام حسين. فقد عبّرت الجماهير عن غضبها وسخطها ضد طهران وجماعة مقتدى الصدر برفع يافطات تشجب تدخل شيعة ايران في شؤون سنة العراق. وكان واضحاً أن المساعدات المالية التي قدمها علي خامنئي ل"حماس"لم تعد كافية لإزالة آثار النقمة. عندئذ أدرك المسؤولون في"حركة المقاومة الاسلامية"أن ارتباط القاعدة الشعبية بمذهبية"الاخوان المسلمين"هو أقوى من كل التيارات المستوردة. وهو ارتباط يعود الى ثورة فلسطين الأولى 1920 التي فجّرها الحاج أمين الحسيني، أو ثورة يافا 1921 أو الى ولادة الكفاح المسلح مع اعلان ولادة"المجلس التشريعي الاسلامي الأعلى"1922. ومن هذه الخلفية يمكن فهم انتماء ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، الى تيار"الاخوان المسلمين"الذين وظفوا الدين في خدمة المطالب الوطنية. تعترف قيادة"حماس"أن"حزب الله"كان جسر العبور إلى طهران. كما كانت تجربته الناجحة ضد الاحتلال الإسرائيلي القدوة التي استلهم منها الانتفاضة الثانية المسلحة. والثابت أن الانجرار وراء الموقف الإيراني اثر على علاقة"حماس"مع مصر والأردن أولاً، ومع سائر الدول العربية والإسلامية ثانياً، لذلك قامت القيادة في دمشق خالد مشعل وغزة اسماعيل هنية ومحمود الزهار بحركة الانعطاف نحو مكةالمكرمة، عندما لمست عمق التقارب الإيراني - السعودي. وهذا ما كشف عنه خطباء مهرجان قوى 14 آذار الذين تحاشوا انتقاد إيران علناً. ويتردد في بيروت أن زيارة النائب سعد الحريري لموسكو، كشفت له عن بعض الجوانب الخفية من الوساطة التي تقوم بها الرياض بهدف رفع الحصار الاقتصادي والسياسي عن إيران، مقابل تخليها عن مشروع تصدير الثورة إلى العراقولبنان والبحرين. كذلك مقابل الكف عن تشجيعها ل"حماس"على رفض كل التسويات المتعلقة باستئناف مفاوضات السلام. وتعترف باريس أن سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني لعب دوراً مهماً في هذا المجال منذ زيارته للمملكة حاملاً رسالة من المرشد الأعلى علي خامنئي. عقب اجتماعه بنائب الرئيس السوري فاروق الشرع، نوه خالد مشعل بدور سورية المشجع على الاتفاق. وكان بهذا الكلام يريد أن يقول إن دمشق لم تمنعه من السفر، وإن انتقاله إلى مكةالمكرمة تم بموافقتها. لذلك أكد أن اجتماعاً قريباً سيعقد في دمشق للاتفاق على إعادة بناء منظمة التحرير، تمهيداً للقاء آخر يعقد في القاهرة. وفي حال تحقيق هذا التواصل تكون المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية قد فتحت الأبواب لإعادة شمل المثلث الاستراتيجي المؤلف من السعودية ومصر وسورية. أي المثلث الذي انفرط عقده عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتتوقع مصادر الجامعة العربية أن تكون القمة العربية المقبلة في الرياض، فرصة لتقليص الخلافات والإعداد لمواجهة"معارك"السلام مع إسرائيل في الضفة وغزة والجولان. ومثل هذا الاجماع، كما يرى عمرو موسى، يحتاج إلى مشاركة كل الحكام العرب بمن فيهم الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الليبي معمر القذافي. هذا الاسبوع أعلنت كوريا الشمالية التخلي عن برنامج الأسلحة النووية، الأمر الذي جدد الثقة باحتمال تجاوب ايران مع الحلول الديبلوماسية. ومع ان الرئيس محمود أحمدي نجاد استبعد هذا الافتراض، إلا ان مستشار مرشد الجمهورية علي أكبر ولايتي، لمح الى ان طهران تدرس بجدية إمكان تعليق نشاطاتها النووية. وأيده في هذا التوجه وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي، الذي أعلن ان الحلول الديبلوماسية مع طهران لم تستنفد بعد. اعترف الرئيس جورج بوش هذا الاسبوع بإطلاق الخطة الأمنية لتحرير بغداد من الميليشيات الشيعية والسنية على غرار ما فعل الملك حسين يوم أوكل لرئيس وزرائه وصفي التل مهمة تنظيف عمان من أسلحة المقاومة الفلسطينية. ومن الملاحظ ان طهران باشرت في سحب أنصارها من بغداد، كي تعطي المالكي فرصة انجاح الخطة الأمنية مقابل حماية نظام الملالي من أي ضربة عسكرية. ومعنى هذا ان علي خامنئي سيقفز فوق اللغم الذي زرعته واشنطن في طريقه، متحاشياً المصير الذي تعرض له الشاه. لذلك قرر فك ارتباطه بفلسطين، وحصر اهتمامه بعلاقات الصداقة مع لبنان وسورية. يقول المراقبون في جنوبلبنان ان اسرائيل قد تواجه مأزق الحل السياسي إذا حافظ الفلسطينيون والعرب على شروط تنفيذ اتفاق السلام. وبما أن المشروع الاسرائيلي لم يستكمل مقوماته الديموغرافية بعد، فإن الحفريات والانتهاكات ستتواصل في محيط المسجد الأقصى. وربما استطاعت الولاياتالمتحدة ان تمنعها من استئناف هذه التجاوزات لأسباب تتعلق بمقدسات المسلمين. ولكنها قطعاً لا تستطيع ان تمنعها من تسديد ضربة استباقية الى"حزب الله"أو ايران، تكون بمثابة صدمة تزعزع استقرار المنطقة. وهذه هي مهمة الجنرال غابي اشكينازي، قائد الجيش الاسرائيلي الجديد! * كاتب وصحافي لبناني