ضرب من تحكيم المقدّس، في الشؤون الدنيوية وفي السياسات الترابيّة، ذلك اللقاء الذي انعقد في مكةالمكرمة، بين رأسي الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، عن الرئاسة وفتح، وخالد مشعل يعضده إسماعيل هنية عن حركة حماس والحكومة... لا يقال ذلك البتّة من باب الانتقاد وقد بلغت الشؤون الفلسطينية ما بلغته، انشقاقا وتشتتا واقتتالا أهليا، حتى أضحى استنهاض أية"سلطة"، مهما كانت طبيعتها ومن أية مرتبة كانت، أمرا ضروريا لاستدراك ما يمكن استدراكه. لكن الواقعة تلك، أي ذلك اللقاء عند بيت الله وفي جواره، أمارة لا تخطئ على ضمور الإجماع الفلسطيني أو على انتفائه، وعلى استفحال الانقسام، بين فتح"العلمانية"والتي أضحت"سنّية"سياسة أو افتراضا وبين حماس"الإسلامية"والتي جُعلت، أقلّه في نظر خصومها،"شيعية"سياسةً أو افتراضا أيضا. وهذا حتى لو لم يتطابق التصنيف أعلاه مع حقيقة طائفية موضوعية، على ما نوّهت مقالة لياسين الحاج صالح على هذه الصحفات الأسبوع الماضي. لم يبق إذاً من مجال لإجماع غير ذلك المرجوّ أو المأمول بالعودة إلى رموز الإسلام الأسمى والأولى، إلى محتد إيماني مشترك، متعال على مشارب الانتماءات المذهبية ونوازعها. محاولة قصوى، لها من ذلك الضرب من المحاولات مخاطرها: ورقة أخيرة قد لا تترك، بعد استنفادها إن لم يكللها النجاح، كبير هامش. وتلك بين سمات زمننا هذا بعض أبعدها إعضالا. فقد أُلحق السياسي بالديني، وتم بذلك إضفاء الإطلاقية على ما يفترض أنه نسبي، وطالت الإطلاقية تلك مواطن الاختلاف، فما عادت هذه الأخيرة تُحسم بما دون التنازع الدموي، إلغاء متبادلا. وكل ذلك معلوم، كثيرا ما تناولته الألسن والأقلام أسفا واستنكارا لدى قلة مستنيرة أو من باب الحث والحض، لدى سواد أعظم مدلهمّ السواد، يدفع ب"النضالية"نحو شأوها الأقصى، فلا يردعها رادع ولا يقف في وجهها اعتبار. غير أن الغلو ذاك، وهو يلوح، في مناطقنا، تيارا جارفا يأخذ برقاب الناس وبوجدانهم أكثر مما يأخذون به، آل إلى تبعات ربما لم نتوقف عندها في جميع جوانبها، إدراكا واستيعابا. ولعل أبرز تلك التبعات دنوّ الآخر العدو أو الذي أضحى عدوا واقترابه وتمثّله في ذلك الأكثر حميمية، بحيث ربما أمكننا القول إن توصيف واقعنا أو واقع المشرق على الأصح، أقلّه في راهن الحال بأنه تتجاذبه النزعات الطائفية، عداءً ما انفك يستحكم ويتفاقم، ما عاد يفيد الشيء الكثير، إلا على وجه التعميم أو ما كان من قبيله. فما بات يستأثر بالتوتر ويتصدّر النزاع، أو يحتل منه المقام الأول، في لبنان كما في العراق أو في فلسطين، ليس تنافر الطوائف والإثنيات بإطلاق، من عائلات روحية مختلفة، وإن التقت في حيّز ما وفي مرتبة ما عند الأخذ بالتوحيد وبديانات الوحي، بل بين مذاهب الديانة الواحدة، أي بين طوائف السنة والشيعة. ما قد يوحي بأن تطورا أساسيا وجوهريا قد طرأ على مفهوم الآخر لدينا، فضاق هذا الأخير تدريجا، كي يستبعد من إلحاح المواجهة ومن أولويتها، ذلك الأجنبي. وهذا كان منذ حملة نابليون على مصر، الآخر الغربي في ما يخصنا، ذلك الذي عُدّ الأكثر إيغالا في الاختلاف، ليرتد نحو المختلف القريب، المباين ديناً أو قومية، ثم لينكفئ على الآخر الأقرب، ذلك المختلف مذهبيا، في إطار الديانة الواحدة. وهكذا، طغى النزاع الشيعي-السني، المستجدّ والمتصاعد، على موقع الصدارة، في بلد مثل لبنان، ليستوي"بديلا"عن انقسام كان في ذلك البلد إسلاميا-مسيحيا، قام عليه الكيان أو كان من العوامل المقيمة لتصدّعه واقعا أو احتمالا، كما في بلد مثل العراق، حيث تجري الحرب"أقوم من ساق على قدم"بين السنة والشيعة، في حين يكتفي الأكراد، من موقعهم كفئة قومية، بموقع المتفرج غير الضالع، وفي حين"تقنع"بقية الأقليات، لا سيما المسيحية، بمنزلة الضحية الجانبية، المستهدفة بدأب ولكن على نحو يكاد يكون عارضا، طالما أنه لا مكان لها في تلك المواجهة السنية-الشيعية. أما في فلسطين، حيث ينعدم ذلك الاصطفاف المذهبي، فقد تمت الاستعاضة عنه ب"تشيّع"وب"سنّية"سياسيين، لا يقلان فتكاً. وفي ذلك إمعان في التصدع الداخلي غير مسبوق، يشي ببلوغ ذلك التصدع"داخل الداخل"إن جازت العبارة وصحت، طالما أن الأمر ما عاد يتعلق بهامش التنوع، وإن كان ذلك الهامش عريضا في بعض البلدان التي لا تكاد تتكون إلا من أقليات متفاوتة حجما، بل بما يمثل متن الهوية الثقافية والدينية، لمنطقة عرفت نفسها دوما بكونها عربية-إسلامية، وهو ما ينطبق بمعنى من المعاني، حتى على أقلياتها الدينية والإثنية. ولأن التصدع ذاك قد بلغ"داخل الداخل"، على ما سبقت الإشارة، فهو لا يمكنه إلا أن يتفاقم إعضالا واستعصاء، خصوصا أنه لاذ بالمطلقات وتجذّر فيها، حتى أضحى المتساجلون، على بعض الفضائيات، يتنابزون بشتم الصحابة، وحتى باتت الجموع في الشوارع أو ما يقوم مقامها في مدننا المريّفة، والتي أضحت أحياء صفيح، عقليةً إن لم يكن"عمراناً" تصدح ب"الثأر للحسين". وقس على ذلك. ربما كان الأمر كذلك دوما، مع فارق قد لا يكون بالهيّن، وهو أن الانتماءات الطائفية والمذهبية، كانت في ما مضى مستترة، تتنكر بلبوس إيديولوجيات وضعية وزمنية، تندرج أو تسعى، أقلّه على صعيد تعبيراتها، في العام لا في الخصوصي، في الوطني أو في القومي وأحيانا في الأممي، وتحافظ بذلك على قدر من لياقة، وتربأ بنفسها عن سفور فظ بذيء. وقد أضحى كل ذلك ترفا بعيد المنال... فلم يبق إلا اللقاء عند بيت الله الحرام، لعل وعسى.