يركز الخطاب السياسي للقوى اللبنانية المتصارعة على قاسم مشترك يتصل برفضهم حصول فتنة بين أبناء الشعب اللبناني وطوائفه وتصميمهم على منع تحول الصراع الى حرب أهلية. خلافاً لهذا الإصرار، تمتلئ خطابات القوى في المهرجانات الثابتة والمتنقلة ومعها التظاهرات والاعتصامات بلغة سياسية تحريضية متشنجة تعكس حجم الاحتقان السائد واستعصاء الخلافات السياسية - الطائفية المذهبية وصعوبة التواصل بين قوى المجتمع وانسداد آفاق التسوية، وهي عناصر تتحدد بها عملياً الحرب الاهلية. يغيب عن ذهن أهل الصراع في المعسكرين ان الحرب الأهلية مقيمة الآن وبقوة داخل المجتمع اللبناني، وتتغذى يومياً من خطاب سياسي عماده النبذ والتخوين والتكفير ورفض الاعتراف بالآخر والاتهام بالعمالة وعدم الاستعداد لتقديم التنازلات سعياً وراء تسوية سياسية. مثّل اتفاق الطائف عام 1989 النهاية العسكرية للحرب الأهلية التي اندلعت رسمياً في نيسان ابريل عام 1975، لكن تطبيق الاتفاق على امتداد خمسة عشر عاماً لم ينه بالواقع هذه الحرب الاهلية لأنه لم يستأصل العوامل والاسباب التي فجرتها. عانى البلد خلال هذه الفترة حرباً أهلية باردة عبر عنها الانقسام الأهلي في مكوناته السياسية. لم تتم اقامة حكومة وفاق وطني تشمل جميع القوى، وجرى تكريس صيغة غالب ومغلوب بما جعل أقساماً أساسية من الشعب اللبناني تعيش حالة غبن وتمييز ضدها، كما فرضت على البلاد انتخابات نيابية عام 1992 قاطعتها غالبية واسعة من الأحزاب وممثلي الطوائف، فانتجت مجلساً نيابياً لا يمثل حقيقة القوى السياسية. وفي المقابل تسلط سيف القمع على قوى سياسية ذات انتماء طائفي مقابل"تصعيد"لقوى طائفية بما لا يتوافق مع التقاليد السائدة في العلاقة بين الطوائف ومواقعها في السلطة، وهي أمور حالت دون ان يشكل اتفاق الطائف تسوية تاريخية للصراع الأهلي، بل جعلته عنصراً من عناصر الانقسام الاهلي بحربه الباردة. أتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط فبراير ليرفع"منسوب"الحرب الأهلية الدائرة ويدفعها خطوات الى الأمام. انقسمت البلاد بشكل واسع حول الوجود السوري الذي اجبر على الانسحاب بعد صدور القرار الدولي 1559 والاندفاعة اللبنانية في وجهه بعد اغتيال الحريري، وانشطر البلد الى استقطابين كبيرين لكل واحد منهما تمثيله الشعبي الفعلي وقوته على الأرض، فكان معسكر 14 آذار معارضاً لسورية وسياستها فيما تولى معسكر 8 آذار الدفاع عنها. شكلت الحشود الجماهيرية التي انزلها كل معسكر الى الشارع معطوفة على المواقف السياسية الحادة تعبيراً بليغاً عن وصول الانقسام اللبناني الى ذروة لا سابق لها، وبدأت تنبئ عن حجم الصعوبات في الوصول الى تسوية بعد ان انفجرت قضايا الكيان والنظام دفعة واحدة. تسببت الاغتيالات والتفجيرات المتتالية بارتفاع حماوة الانقسام بما حوّل الحرب الأهلية الباردة شيئاً فشيئاً الى منحى عنفي متعدد الأشكال. منذ العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز الماضي، تعيش البلاد يومياً احتقاناً شديداً تتراكم عناصره وتزيد حدة الانقسام والخلافات وتظهر العجز عن التوافق على قواسم مشتركة. تصاعدت الاستقطابات بين معسكري آذار، وتمترس كل طرف عند شروطه ومطالبه ممتنعاً عن تقديم التنازل. تحولت الاستقطابات انقسامات طائفية مذهبية حادة بشكل لم يعرفه التاريخ اللبناني وحروبه الاهلية السابقة. باتت الدولة عبارة عن مؤسسات تملكها الطوائف، وأصبح الصراع على أي موقع دستوري صراعاً على حق الطائفة في الوجود. تعطلت المؤسسات الدستورية، فرئاسة الجمهورية فاقدة للشرعية في نظر معسكر محدد لأن التمديد للرئيس جاء قسرياً وخلافاً لارادة اللبنانيين، والحكومة باتت فاقدة لاحدى قواعد العيش المشترك بعد استقالة الوزراء الشيعة منها، والمجلس النيابي معطل وممنوع عليه الالتئام. ولم تنج القضايا المشتركة المتصلة باقتصاد البلد ومعيشة مواطنيه من التصنيف الطائفي، فجرى التعاطي مع مؤتمر باريس - 3 كأنه مكسب لطائفة على حساب أخرى. في هذا الجو من الاحتقان، كان طبيعياً ارتفاع حدة الخطاب السياسي كإن المواطن اللبناني أكثر الناس إدراكاً بأنه يعيش في صميم هذه الحرب، وانها الأقذر في ما شهده وعاشه منذ ثلاثين عاماً. يتحسس المواطن هذه الحرب في البناية التي يعيش فيها والحي الذي يسكنه والمنطقة التي يقيم، ويرى يومياً بأم عينيه المستوى المتقدم الذي وصله تصنيف اللبنانيين الى طوائف ومذاهب، وتحول الاسم والكنية والعائلة ولون الثياب الى مشكلة لا يدرك كيف يتخطاها. عاد مشهد الخطف على الهوية يقض مضجعه، واستحضر عملية الفرز الديموغرافي والتهجير، وبدأ الاستسلام الى قدره، فهو لا يدري ان كان سيعود الى بيته مساء من عمله. لذلك بات المواطن يرتعد من وسائل الاعلام ومن كل خطاب يلقيه هذا القائد السياسي أو ذاك، لأنه يدرك المفاعيل. وبعد كل ذلك، هل ما زال للكلام عن وأد الفتنة ومنع الحرب الاهلية من مكان؟ * كاتب لبناني