في خضم الجدال الحاد حول آلية تعديل الدستور، من اجل انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان رئيساً توافقياً للجمهورية، أرادت المعارضة تعديل المادة 49 من الدستور اللبناني، التي تمنع انتخاب موظفين في الدولة من الفئة الأولى، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم او تاريخ إحالتهم على التقاعد، من خلال مجلس النواب ومن دون المرور بالحكومة التي تعتبرها غير ميثاقية وغير شرعية، بينما يؤكد القانونيون والدستوريون ان أي تعديل او تعليق أي مادة في الدستور، بحاجة الى موافقة الحكومة، التي هي بحسب الأعراف القانونية، دستورية وشرعية لأنها تتمتع بثقة مجلس النواب المنبثق عن انتخابات نزيهة. وتدل تصرفات المعارضة في تأجيل جلسات تعديل الدستور وانتخاب رئيس للجمهورية، على رغبة لديها في ابتزاز الأكثرية في مواضيع سياسية مهمة، متعلقة في شكل الحكومة المقبلة واسم رئيسها وتوزيع حقائبها السيادية، وبيانها الوزاري وما سيتضمنه من مواقف تجاه المقاومة وسلاحها، وقرارات مؤتمر الحوار الوطني والقرار الدولي رقم 1701. ويتقاطع موقف المعارضة مع رغبة دمشق في تعطيل الاستحقاق الرئاسي الى ما بعد القمة العربية المزمع عقدها في دمشق في شهر آذار مارس المقبل، كوسيلة ضغط على الولاياتالمتحدة الأميركية، من اجل إعطائها موقعاً متقدماً في عملية السلام المرتقبة في المنطقة، ولمقايضة المملكة العربية السعودية، في أمور عدة، في مقدمها المحكمة الدولية. في خضم ذلك كله، امتدت يد الإجرام لتغتال مدير العمليات في الجيش اللبناني العميد الركن فرنسوا الحاج، وكان أحد أبرز المرشحين لقيادة الجيش، في حال انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، في منطقة تتسم برمزية عسكرية وسياسية كبيرة، إذ تضم القصر الجمهوري ووزارة الدفاع ومراكز وثكناً عسكرية، ما يثبت هشاشة الوضع الأمني في لبنان، وقُدرة الإرهابيين على الحركة بحرية ومن دون عوائق. تلقت المؤسسة العسكرية اللبنانية ضربة قاسية وموجعة، كانت بمثابة رسالة كبيرة متعددة الأهداف منها: استهداف دور الجيش في حفظ الأمن والاستقرار ومواجهة محاولات التفجير والإخلال بالأمن الوطني، ووحدته وتماسكه ودوره التوفيقي، وسط الانقسام السياسي والمذهبي الحاد الذي تعيشه البلاد، وترهيب قائده العماد سليمان، المرشح التوافقي لرئاسة الجمهورية، لثنيه عن متابعة المسيرة الرئاسية وتفادي تداعياتها، والانتقام من مدير العمليات فيه لاضطلاعه بدور قيادي متقدم جداً في معركة نهر البارد، ما يضع علامات استفهام حول ضلوع"فتح الإسلام"في هذه العملية، وقدرتها على القيام بعملية تتطلب متابعة ورصداً دقيقين وإمكانات بشرية ومادية ضخمة، على رغم الخسائر الكبيرة التي منيت بها في معارك نهر البارد. وتتبادر الى الأذهان اسئلة كثيرة، حول الدور الذي قامت به بعض الجهات لتهريب شاكر العبسي وبعض اركان قيادته خارج المخيم، والجهات الخارجية التي ساعدت"فتح الإسلام"في حربها ضد الشرعية اللبنانية، والتي تقف حالياً وراء هذه الجريمة النكراء. تتفنّن المعارضة في تعطيل الاستحقاق الرئاسي، والخوف ان يكون هدفها من التعطيل المتعمّد ابعد من تحقيق مكاسب آنية، أو تنفيذ رغبات إقليمية محدودة، وهو الانزلاق في جولة جديدة من الصراع من اجل تفكيك الدستور والمعادلات وإعادة ترتيب صيغة جديدة للبنان، ما يؤدي الى دفن حلم"انتفاضة الاستقلال"الى الأبد، وضرب حقوق المسيحيين باعتماد المثالثة في الصيغة الجديدة، بدلاً من المناصفة المعمول بها حالياً. فهل يدرك العماد ميشال عون انه بتغطية تعطيل الاستحقاق الرئاسي، يكون مسؤولاً عما ستؤول إليه بعد ذلك احوال المسيحيين. اعتقدت دمشق انها حققت من مشاركتها في مؤتمر انابوليس العودة الى الواجهة الدولية، ما دفعها الى تفشيل الأوروبيين في إنجاز الاستحقاق الرئاسي، والإمساك به منفردة، وفسّر البعض تراخي الولاياتالمتحدة الأميركية في الأسابيع الأخيرة، بأنه نتيجة صفقة عقدتها مع دمشق، تريحها في العراق مقابل إطلاق يدها في لبنان. وعادت المعارضة المتحالفة مع دمشق الى التشدد ورفض الحلول الوسطية، بهدف الاستئثار بالسلطة من خلال الإصرار على تفاهمات سياسية تسبق انتخاب رئيس الجمهورية، تضعها في موقع المنتصر، أو المطالبة بتوسيع الحكومة وإعطائها الثلث المعطل، على ان تتولى هذه الحكومة اجراء انتخابات نيابية مبكرة على اساس قانون جديد، وينتخب بعدها المجلس المنبثق منها رئيس الجمهورية، لاعتقادها بأن وضعها الشعبي افضل من وضع الأكثرية، ما يؤمّن فوز مرشحها للرئاسة. تعتمد المعارضة في خطاها خريطة الطريق التي وضعتها دمشق، وأعلنتها على لسان نائب رئيسها فاروق الشرع ومفادها"ان المشكلة في لبنان هي داخلية، وتتعلق بالحكومة ورئيسها والثلث الضامن"، ما دفع المعارضة الى التكشير عن انيابها وإعلانها بأن الخلاف على إنجاز الاستحقاق الرئاسي هو سياسي، وليس دستورياً كما حول الرئيس نبيه بري تصويره. وبدأت المعارضة في تصعيد مواقفها وكشف بعض اوراقها المستورة، مثل محاولة إبعاد زعيم الأكثرية النيابية عن رئاسة الحكومة المقبلة. وكان الرد السعودي على الشرع قاسياً. عندما نقلت المعارضة ملف التفاوض الى العماد ميشال عون، ليتلهى به بانتظار نتائج المفاوضات الجارية بين الأميركيين والسوريين والإيرانيين، كانت الإحالة بمثابة تهرّب دمشق من الالتزام بتعهداتها الى الدول العربية والأجنبية بتسهيل انتخاب العماد سليمان بالضغط على حلفائها الذين يشكلون عماد المعارضة وعصبها، ويُعتبر تحويل الملف بمثابة رمي الكرة في خانة المسيحيين على اساس ان المشكلة مسيحية، على رغم معرفة دمشق بأن مآل التفاوض مع العماد عون فيما لو حصل هو الفشل، نتيجة شخصيته الصدامية ورغبته القاتلة في الوصول الى سدة الرئاسة الأولى. أشار وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير بطريقة غير مباشرة الى موقف دمشق السلبي من الاستحقاق الرئاسي بقوله"ان هناك من لا يريد ان تتم الانتخابات". وكان البطريرك الماروني نصر الله صفير اكثر وضوحاً بقوله"ان الهدف من تعطيل الاستحقاق الرئاسي، هو اعادة الوصاية الى لبنان، وعرقلة قيام المحكمة الدولية"، وتدل تصرفات دمشق عن انكشاف موقفها من عرقلة الاستحقاق الرئاسي، الى حين اطمئنانها الى مضمون القرار الظني في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه قبل صدوره. وتعتبر زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط المفاجئة الى بيروت، في وقت تحوم التكهنات حول الموقف الأميركي المتراخي من القضية اللبنانية، بمثابة رسالة قوية من الإدارة الأميركية بتأييد الحكومة اللبنانية ودعم الأكثرية النيابية ? دعماً ملموساً ? في أي قرار تتخذه لملء الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية، ونفي قاطع بوجود أي شكل من اشكال الصفقات مع دمشق على حساب لبنان. فإلى متى تبقى دمشق متصلبة في موقفها السلبي من إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وغير عابئة ومكترثة بالضغوط الدولية؟ * كاتب لبناني.