الكتابة عن فرنسوا أبو سالم في هذا الظرف بالذات، ترتدي أهمية خاصة، بالنظر إلى أننا منذ الآن وحتى عام 2009 نستعد بمختلف الوسائل والأشكال، لمناسبة القدس عاصمة الثقافة العربية. فرنسوا المقدسي المتحدر من أب أصوله مجرية وأم فرنسية، عاد للإقامة في القدس منذ سنتين، بعد غياب في باريس دام سنوات. فرنسوا عاد لمواصلة مشواره في المسرح الفلسطيني الذي ابتدأه أوائل السبعينات من القرن الماضي. يومها أسس فرنسوا وعدد آخر من الممثلين الهواة فرقة"بلالين"المسرحية. الفرقة الوليدة كانت علامة فارقة في مسيرة المسرح الفلسطيني، واعتبر فرنسوا بحق واحداً من أبرز مؤسسي المسرح الفلسطيني الحديث. ومنذ البداية، منذ مسرحية"العتمة"التي سلطت الأضواء على فرقة"بلالين"، كان واضحاً أن فرنسوا أبو سالم ميال إلى المغامرة الفنية والتجريب. وقد أثبتت مسيرة الفرقة اللاحقة أن فرنسوا لا يخشى المغامرة، وهو معني بتجريب الأشكال الموغلة في الحداثة وفي الغرابة أيضاً، لاكتشاف أساليب جديدة للتعبير المسرحي. مع تقدم"بلالين"على طريق الإنجاز الفني، ظهر ممثلون موهوبون، أثبتوا حضوراً لافتاً منذ عرض مسرحية"العتمة"على مسارح القدس وبيت ساحور ورام الله وغيرها. كان هناك سامح عبوشي، إميل عشراوي، ماجد الماني، عادل الترتير، فرنسوا أبو سالم، على الحجاوي وغيرهم. وكانت هناك نادية ميخائيل، الفتاة الأكثر حضوراً آنذاك في فرقة بلالين، وفي مسرحية"العتمة"بطبيعة الحال. نادية مهدت السبيل لظهور فتيات ممثلات في السنوات اللاحقة، خصوصاً بعد أن أثبتت بلالين والحركة المسرحية في شكل عام، حضورها في المجتمع الفلسطيني منذ أوائل السبعينات إلى أوائل التسعينات من القرن الماضي. كان المجتمع الفلسطيني أوائل السبعينات يبحث عن كل ما من شأنه تعزيز هويته الوطنية، التي باتت مهددة على نحو أكثر حدة، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، وبعد تفاقم عمليات مصادرة الأرض الفلسطينية وبدء مشاريع الاستيطان، المقترن بتصاعد العسف الإسرائيلي المتمثل في اعتقال الآلاف من المناضلين الفلسطينيين والمناضلات، وفي إبعاد المئات منهم، وفي عدادهم قادة سياسيون وكتاب وصحافيون ومثقفون ونقابيون، من أرض الوطن، في مسعى مكشوف لإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، ولفرض حلول مشبوهة للقضية الفلسطينية، لم تنجح بفعل يقظة الحركة الوطنية الفلسطينية وقدرتها على التجدد المستمر، وبفعل صمود الناس في وطنهم ورفضهم لمخططات المحتلين. كان الانبعاث الثقافي في الأرض المحتلة أوائل السبعينات والسنوات التي تلتها، تعبيراً عن الرغبة في تعزيز الهوية الوطنية وحمايتها من التبديد. وقد كان انبعاث الحركة المسرحية بهذه القوة تعبيراً أكيداً عن تلك الرغبة. وفي ما بعد تعزز حضور فرقة"بلالين"، وتوسع نشاطها ليشمل أنشطة فنية أخرى مثل الغناء والعزف على الآلات الموسيقية وممارسة الدبكات الشعبية، وتعاون معها في تلك الحقبة الفنان مصطفى الكرد وآخرون من هواة الغناء، كما برز في صفوفها ممثلون جدد من أبرزهم وليد عبدالسلام. وتجمعت من حولها نخبة من الرموز الوطنية والثقافية، ما جعلها بؤرة للإشعاع الثقافي ولتوحيد المواقف ولتعزيز الانتماء الوطني. وقد تجسد ذلك كله في المهرجان المسرحي الذي نظمته فرقة بلالين والمتعاونون معها من فنانين ومسرحيين، على مسرح بلدية رام الله العام 1973. كان فرنسوا أبو سالم في قلب هذا الحراك الثقافي الحي، النابع من مبادرات لا تحتاج إلى دعم المانحين الذين لم نكن نعرفهم آنذاك. كانت الحركة المسرحية الناشئة تعتمد على جهود أفرادها وعلى دعم الجمهور. وكانت تمثل حالة موضوعية لحركة كان لا بد لها من الظهور، ونزوعاً أصيلاً لدفاع الشعب عن ذاته بمختلف الوسائل والأشكال. وما زلت أذكر، في معرض مواكبتي فعاليات فرقة"بلالين"أوائل السبعينات، كيف حول فرنسوا أبو سالم، بيت أسرته الواقع في حي الشيخ جراح في القدس إلى مقر لفرقة بلالين، وكيف حول البستان الواقع أمام البيت إلى مسرح صيفي تجري عليه العروض المختلفة آنذاك، علاوة على ما كان يشهده المقر من حوارات ثقافية وفنية وسياسية وارتجالات مسرحية. كان والد فرنسوا يعمل طبيباً في القدس. ثم أخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تشدد رقابتها عليه، ثم اضطرته إلى مغادرة فلسطين، بسبب اتهامه بإيواء فدائيين جرحى وإسعافهم. مع توسع أنشطة الحركة المسرحية بعد النجاحات التي حققتها وانضواء فنانين جدد في صفوفها، شهدت"بلالين"أول انقسام فيها، سببه تباين الاجتهادات والرؤى. فأصبحنا أمام فرقتين: بلالين، وبلا- لين، مع ما يحمله الاسم الثاني من شحنة إيديولوجية ونزوع إلى عدم المهادنة. وقد كان فرنسوا في قلب الفرقة الثانية، ثم شارك هو ومصطفى الكرد وعادل الترتير وأنيس البرغوثي في تأسيس فرقة"صندوق العجب"العام 1975، وبعد ذلك، أعلن عن تأسيس فرقة جديدة اسمها"الحكواتي"في العام 1977 ظلت مستمرة حتى الآن، فيما استمر عادل الترتير في العمل في فرقة"صندوق العجب"التي ظلت هي الأخرى مستمرة حتى أيامنا هذه. وما لبثت فرق مسرحية فلسطينية أخرى أن ظهرت إلى حيز الوجود، وقدمت على مسارح القدسورام الله وغيرهما من المدن الفلسطينية، وعلى مسارح بعض البلدان العربية والأوروبية أعمالاً مسرحية كثيرة، بعضها متميز وبعضها الآخر مشغول باستعجال. تحت هذا الاسم: الحكواتي، أنجز فرنسوا بالتعاون مع فنانين آخرين من أبرزهم الممثل والمخرج المقدسي عامر خليل، أعمالاً مسرحية كثيرة، جاب بها فرنسوا بلداناً عدة في العالم، ثم غادر القدس للإقامة في باريس، ربما سعياً وراء تطوير أدواته الفنية، وانصياعاً لمتطلبات عروضه المسرحية في الخارج. أخيراً، كنت أشاهد فرنسوا على خشبة المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، وهو يقدم مسرحية"ذاكرة للنسيان"، وهي مونودراما مقتبسة من كتاب محمود درويش الذي كتبه بعد اجتياح بيروت عام 1982. أعد المونودراما للمسرح: فرنسوا أبو سالم وأمير زعبي الذي صمم الديكور، ومثلها وأخرجها فرنسوا أبو سالم، وساعد في الإخراج: عامر خليل. شاهدت فرنسوا وهو يؤدي هذا النص الجميل على خشبة المسرح، بثقة تمنحها له خبرته التي كدسها في المسرح طوال سنوات، حيث حركات الجسد المنضبطة المتناغمة مع تجليات النص، وحيث الأداء اللغوي الذي يعرف متى يكون هادئاً مسترخياً ومتى يكون مشدوداً متوتراً. ثم تذكرت مسيرة فرنسوا المسرحية التي انطلقت من هنا، من القدس، قبل أكثر من 35 سنة. تذكرت أداء فرنسوا في مسرحية"العتمة"وقارنته مع أدائه في مسرحية"ذاكرة للنسيان"، ولاحظت كم تطور فرنسوا أبو سالم. كم بقي مثابراً على إخلاصه للمسرح، في حين هجر المسرح، لأسباب مختلفة، عدد غير قليل من أقرانه الذين ابتدأوا المسيرة معه. وتذكرت أننا نستعد لإطلاق فاعليات ثقافية تتوج القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009، فاستبشرت خيراً بعودة فرنسوا أبو سالم إلى القدس، ليقيم فيها من جديد، وليواصل منها نشاطه المسرحي.