لا يمكن زائر معرض الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، المقام في غاليري "الأيام" في دمشق، بعيداً من"الرعاية الرسمية لوزارة الثقافة السورية"، خلافاً للتقليد المتبع، أن يعثر على أجوبة ناجزة لما رأته عيناه للتو. ففي محاولته صوغ جواب ما لدى وقوفه أمام إحدى اللوحات، تأتي اللوحة التالية لتنسف تلك القناعة وتكشف هشاشتها، فتتزاحم الأسئلة الوجودية المقلقة، لوحة إثر لوحة، على ضفاف الروح. كأن عبدلكي في تجربته الفنية التي انطلقت من بلدته الصغيرة القامشلي حيث ولد العام 1951، ونضجت في دمشق حيث تخرج في كلية الفنون الجميلة منتصف السبعينات، واكتملت في باريس التي لجأ إليها العام 1980... كأنه يسعى إلى إشراك المتلقي في البحث عن أجوبة أخفقت لوحته في إيجادها، ليقينه بأن"الفن ليس إلا صوت أحلامنا الخائبة". وعلى رغم هذه القراءة التي تبدو معقدة، فإن لوحة عبدلكي البالغة الإتقان، العالية الدقة، تقدم نفسها على نحو شديد البساطة، وتحتفي بما هو أليف إلى درجة الابتذال. فهذا الفنان يرى المشهد من زاوية مختلفة، فهو يعيد المعنى إلى تلك الأشياء المنسية والمهملة. يرصد كل ما يوحي بالألم، ليرسم عالماً سوداوياً عبر توظيف مبتكر لمفردات وعناصر تحرض على الأسئلة الحائرة: رأس سمكة مقطوع أو موضوع في صندوق"زهرة يتيمة تبحث عن غصن، أو أغصان جافة مرمية على قارعة النسيان"مزهرية مكسورة في فراغ شاسع"عظام جماجم وأضلاع بشرية"أصداف تستحضر زرقة البحر"أباريق وكؤوس بلا ندامى"علبة سردين فارغة"زنابق ذابلة"أحذية لنساء غائبات يتوهم الزائر اكتمال حضورهن الجسدي"نصل بدا مستعداً لمجزرة"قبضة يد مبتورة... وسواها من الأشياء التي جمعها عبدلكي بحنو بالغ، وبحس مرهف ليبحث لها عن ضوء وسط هذا السواد، عن مكان يليق بضعفها، وهامشيتها... وهو بارع في جدلية الظل والنور، مثلما هو بارع في رسم الخطوط الرقيقة في خلفية اللوحة التي يتصدرها في المنتصف شكل هو أقرب ما يكون إلى النسيان والعزلة، والغياب. هذه الأشياء المهملة والنافلة هي التي تحتل المتن، وتتصدر فضاء اللوحة، وما يزيد من عزلة هذه العناصر وقتامتها هو انها مرسومة بتقنية"فحم"على الورق، وعلى المتلقي، عندئذ، أن يلاحظ تلك الطاقة التعبيرية والجمالية المختزنة في هذه الأشياء التي فقدنا الإحساس بها، وأن يستنتج الدلالات والرموز عبر الاستعانة باللونين الأسود والأبيض وتدرجاتهما فحسب. يقول عبدلكي مبرراً نزوعه نحو جعل الهامشي متناً"إن الأشياء المهملة تحمل طاقة جمالية لم نعد نتبينها بسبب حضورها الدائم، وهي كذلك حافلة بالمعاني والدلالات المباشرة أو الميتافيزيقية"، ولعل هذا ما يشير إليه الرسام إميل منعم:"عندما يرفع عبدلكي الستارة عن مفرداته يكون للأسود دور إضفاء لغة بليغة على مضامينها، وقد عرّاها من نسب الانتساب إلى الطبيعة، ودفع بها منذ البداية، من عالم الواقع الطبيعي إلى عالم الدلالة الرمزية". إزاء ذلك من الصعب أن نجد في لوحة عبدلكي ما يشي بالحركة والحياة، فهي غارقة في فراغ موحش وصامت. وثمة غياب متعمد لمن يستخدمها: أي الإنسان، إذ لا توجد وجوه لبشر سوى تلك التي تراقب اللوحة بذهول من خارجها، وتحاول قراءة المعاني الكامنة خلف خطوطها الانسيابية الرقيقة، ولئن ظهر ما يفترض انه يضج بالحياة، فإنه يكون على شكل جمجمة مخيفة، أو نعش، كتلك اللوحة اللافتة، المتدلية من السقف، والتي تظهر جثة في نعش، وحين يدقق المرء النظر يقرأ هذا المقطع للشاعر السوري نزيه أبو عفش:"ماذا يحدث على الأرض؟/ ماذا يحدث في السماء؟/ عندما تفتح امرأة غطاء النعش، وتصرخ: يا ولدي". هذا المقطع لم يدرجه عبدلكي لجلاء معنى اللوحة، بل يقر بأن"اللوحة حاولت تأويل كلمات الشاعر بصرياً"، ويزيد بأن"هذه اللوحة هي مقدمة للاشتغال على قصيدة أبو عفش، فأنا لدي مشروع في هذا الإطار يراودني منذ سنوات ولكنه مؤجل، إذ يصعب عليَّ إيجاد معادل بصري للزخم والطاقة المبثوثة في قصيدة أبو عفش، فذلك يتطلب الكثير من التأني، والاجتهاد". إن الفضاءات السوداء والرمادية في لوحات عبدلكي ذات الأحجام الكبيرة، يصل قياس بعضها إلى أكثر من مترين، التي ترى في مركزها كتلة ضئيلة، توحي بالكآبة والحزن والفزع. وعبدلكي الذي كان اعتقل نحو سنتين، في سورية، على خلفية موقفه السياسي، قبل هجرته إلى فرنسا، ومنع من العودة لأكثر من ربع قرن، لا ينفي حقيقة هذا الإيحاء، بل يوضح أن"الحياة التي نعيشها ضارية وقاسية، فأنا لم أخترع هذه السوداوية، بل هي حصيلة طبيعية لما يقاسيه الإنسان في واقعه اليومي المعاش". لكنه ينفي أن يكون الدافع وراء اقتصاره على اللونين الأبيض والأسود، هو الإمعان في إظهار الجانب التراجيدي، بل"وجدتُ أن هذا الاتجاه هو الأنسب لأستخدم طاقتي التعبيرية". ولئن برز، بخجل، اللون الأحمر مخترقاً، في مرات قليلة، هذا السواد الطاغي، فإن ذلك"نوع من المداعبة للون الأسود لئلا أبدو وكأنني أسير له". في الكاتالوغ الذي يوزع على الزوار، ثمة رصد لمحطات تجربة عبدلكي الفنية. حارب عبدلكي سنوات طويلة كل أشكال القمع، عبر الحفر، والكاريكاتير، والرسم، والكتابة حتى امتلأت لوحاته الأولى بوجوه ودمى وخيول... بمشاهد، ورموز، وتفاصيل من الشرق الحزين. لقد فتح معارك اللون على اتساعها وراح يوثق لصنوف الاستبداد في لوحة انطوت على مشهدية بصرية حافلة بالصخب. وحين آمن بأن اللوحة أضعف من أن تحقق تلك الأحلام العريضة، راح يبحث عن أشيائه البسيطة، ولم يعد يثقل لوحته بتلك الأيديولوجيا الحالمة. هجر مسرح المعارك. أهمل التفاصيل وتبنى الاختزال والاختصار. لقد بدأ يلتقط، بهدوء وأناقة، حركة غصن، صمت مزهرية، وضآلة حذاء... وسواها من المفردات المماثلة، منحازاً إلى الإنسان، رهانه الأوحد، دائماً، وهو رهان على العدالة والجمال في مواجهة القبح. سيرة ذاتية أقام الفنان يوسف عبدلكي معارض فردية عدة في مختلف العواصم والمدن في العالم منذ مطلع السبعينات وحتى اللحظة. وإضافة إلى بعض المدن السورية فقد شهدت عواصم ومدن عربية وغربية معارض له مثل القاهرة وتونس وعمان وبيروت ودبي وصفاقس والمنامة وباريس والإسكندرية والكويت... وشارك في معارض جماعية في بغداد وبرلين وباريسوالقاهرة ولندن وبيروت وتايوان وهامبورغ وجنيف والشارقة. وتقتني لوحاته متاحف مهمة في العالم مثل المتحف البريطاني، ومتحف معهد العالم العربي في باريس، ومتحف ديني لي بان في فرنسا، ومتحف عمان للفن الحديث، ومتحف الكويت، وصمّم عشرات الملصقات وأغلفة الكتب والشعارات، ونشرت رسومه وأعماله الكاريكاتورية في مجلات وصحف، عربية وعالمية، منها"الموقف العربي"وپ"لومانيتيه"وپ"القدس العربي"وپ"الشروق"وپ"الخليج"، وملحق النهار... وسواها، وصدرت له دراسات، منها"تاريخ الكاريكاتير في سورية"، وپ"دراسة عن رسامي الكاريكاتير العرب وتقنياتهم".