بريطانيا حيث قتال الشوارع ارتبط يوماً بأنواع الموسيقى وحيث محبّو الروك كرهوا مبغضيه وميّزوهم من لباسهم ومشيتهم ونمط حياتهم... بريطانيا أيضاً حيث الموضة عقيدة بحد ذاتها واللباس ميزة تخبر عن نوع عمل صاحبها وعن نشاطاته ومرتبته الاجتماعية... لا مكان للخطأ فيها كما لا مكان للخطأ مع الإنكليز في هذا المجال، فهم يطلقون على قطاع كامل كموظفي المصارف مثلاً تسمية"بدلات"، كما يطلق الفرنسيون اسم"ياقات بيض"على موظفي الدولة، أو"ياقات زرق"على العمال. اللباس هنا مهنة، وفئة وخيار جدي في الحياة. حدث لي أن دعيت الأسبوع الفائت الى حفلة موسيقية أقيمت في لندن لأهم فرقة روك إند رول وهي"ليد زبلن"الانكليزية. طبعاً لم يكن بوسعي حضور الحفلة لو لم أكن مدعوة، اذ تنافس مليونا شخص على 20 ألف بطاقة مما جعل سعر البطاقة خيالياً. وأنا لم أدرك حجم هذا الحفل الى ان وصلت ورأيت حماسة الناس الذين جاء بعضهم من بلدان بعيدة ككندا وأستراليا ودفعوا آلاف الدولارات في مزاد علني بحثاً عن مقعد ولو خلفي في هذه الصالة الكبيرة على ضفاف نهر التايمز. وبالنسبة إلى هؤلاء، يعتبر حضور حفلة"روك إند رول"بمثابة طقس ديني وتجربة خيالية غامضة. كان المشهد أشبه بتظاهرة ضخمة أعادني إلى مشهد تظاهرات بيروت التي تكتظ بآلاف الأشخاص يهتفون رافعين أيديهم والشغف يظهر في عيونهم ومن حناجرهم. المشهد يثير الاضطراب إذ يتبدى فجأة حجم الجماهير عندما تصبح مجموعة واحدة متراصة. ومحب الپ"روك إند رول"الأصلي يرتدي قميصاً خاصاً بفرقة"الليد زبلن"وحزاء جلدياً كمثل الذي يرتديه مغني الفرقة وعلى شعره أن يكون طويلا مجنوناً. حضر تلك الحفلة الكثير ممن يلبسون أغرب ما تعرفه الموضة والأناقة. فمشاهير الغرب يدخلون الصالات وحدهم أو مع بعضهم البعض من دون مرافقين أو ضجة سوى تلك التي أحدثتها مراهقة قفزت فرحاً عند دخول ممثلها ومغنيها المفضلين وذهبت لتأخذ صورة معهما وهما، يا لدهشتي، بادلاها الاهتمام واللطف. كانت جودي كييد احدى أشهر عارضات الأزياء في العالم ترتدي كنزة واسعة كالتي يرتديها الرياضيون خلال التمارين. أما كايت موس أهم وأجمل وجوه الموضة في لندن والتي سبق لها ان عرفت بثياب تشبه كثيرا ملابس روبرت بلانت مغني الفرقة، فارتدت للحفلة معطفاً من ريش وظهرت مع صديقتها ناومي كامبل كهبييتين بشعر أشعث. وهذا شكل يعود الى موجة الهيبيز التي درجت في سبعينات القرن الماضي عندما اشتهرت الپ"روك"وترافقت مع التحرر الجنسي وانتشار المخدرات لكسر ما تبقى من مجتمع بروتستنتي محافظ عرفته هذه البلاد لسنين طويلة. غالبية المشاهير اتخذوا شكلاً"بوهيميا"درج في لندن منذ عام 2004 مستعيداً ثقافة"الهيبيز"وكانت الممثلة الانكليزية سيانا ميلر أبرز مروّجي هذه الحالة. ويعرف الشخص البوهيمي عادة بحبه للجمال وبحثه عن الراحة النفسية وهو رومنسي لأقصى الدرجات لا يعرف الحدود في الابتكار. إنه نمط عيش متكامل ونظرة إلى الحياة لا تقتصر فقط على اللباس. الپ"بوهو-شيك"هو ما يرتديه شباب لندن وجاءت التسمية من ساحة سوهو الشهيرة في وسط لندن ومن النمط"البوهمي"طبعاً. وهي ثياب مريحة ملونة مزخرفة واسعة في غالبيتها ومستوحاة من ثياب المشردين والغجر والكاوبوي وثياب الطبقة العاملة والفقراء لسكان أحد أغنى مدن العالم. أما الجزادين الضخمة المرافقة لتلك الأزياء فتشعرك بأنك تحمل بيتك على كتفك، وأنك مستعد لتحيا حيث تحل بك قدماك. إنه"لوك"عملي لسكان المدن الكبرى فهو سريع ولا يترافق مع تبرج أو تصفيف للشعر كما أن ألوانه تخفي الأوساخ والغبار المتراكم في كل مكان من المدن الكبرى. وتختلف أسعار الملابس في لندن من ثياب أسواق محلية أو متاجر عالمية باهظة. لكن الأهم أنها لا تبقى حكراً على الأغنياء بل تولد بين الشباب والفنانين، فهم حتى لو ملكوا الملايين سوف يرتدون ملابس تبرز جنونهم وحبهم لأنماط معيّنة في الحياة والموسيقى وهي بذلك توحدهم نوعاً ما. ومن يعيش في لندن لا يمكنه أن يستخف بالموضة. فهي في كل مكان. في المدارس والجامعات والشوارع والقطارات والحفلات الموسيقية وجميع الصحف والتعليقات. والموضة هنا مسلية وصادقة وبسيطة على رغم الجنون الذي بدت عليه في حفلة"ليد زبلن". وأنا في غمرة حبي للموضة، غفلت عن أنها هي نفسها الموضة والموسيقى كانتا السبب يوما ما لمشاكل عديدة في شوارع انكلترا، أشهرها ما صوره فيلم عن عراك دار في شوارع مدينة برايتن الساحلية بين محبي"السول"ومحبي"الروك"الذين يفضحهم لباسهم!