لا يستطيع القارئ المتفحص لمراجعات الدكتور فضل السيد إمام عبدالعزيز الشريف منظّر حركة الجهاد في مرحلة التأسيس وحتى مطلع التسعينات، إلا أن يقابل ذلك بالكثير من الجدية والاحترام، بسبب جدية المضمون، ودلالاته على عقلية المخاطبين، كما الدلالات على أوضاع القاعدة بعد عام 1998، وأخيراً معاني ذلك بالنسبة الى شبان العرب والمسلمين الذين لا تزال الجهاديات تجتذبهم باتجاه مواطن المشكلات من أفغانستان الى العراق والصومال، والى السعودية والمغرب والجزائر... ولبنان. في المجال الأول، المتصل بعلاقة الدكتور فضل بتنظيم الجهاد، الواضح أنه كان له موقعٌ فكريٌ وفقهيٌ متميز في نظر نفسه، وفي نظر شبان حركة الجهاد وكهولهم، وربما كان الظواهري من بينهم. وكنت قد قرأت كتابه:"الجامع في طلب العلم الشريف"في عام 1994 أو 1995 وسط الأخبار والاشاعات عن صراعه مع الظواهري على تزعم تنظيم الجهاد. وقد قارنته يومها بكتابات أتباع"الجماعة الإسلامية"، فوجدت أن الكتابات الأخرى أكثر تسييساً، بينما تتميز كتابة د. فضل بطابعها الفقهي البحت، ومراوحتها بين السلفية والتأصيل. فأتباع"الجماعة الإسلامية"والذين أجروا مراجعاتهم النابذة للعنف عام 1997 وما تلاه، كانوا مهتمين بإثبات عداء الغرب للإسلام، وعداء مقلدي الغرب من الحكام والقوميين والعلمانيين للدين والأمة، ومن خلال هذين الأمرين يُدين هؤلاء الأوضاع السائدة، ويبيحون لأنفسهم ممارسة العنف في مواجهتها، وضد الأجانب بالذات. أما الدكتور فضل فقهو فقيهٌ بدايةً ونهايةً، ولأنه كذلك، فإن التدقيقات الفقهية تلعب لديه دوراً أكبر مما تلعبه لدى منظّري الجماعة. وعلى سبيل المثال، فإن الرجل لا يتعرض حتى عندما كان يقول بفرضية الجهاد للإخوان المسلمين بالنقد، في حين تحمل كتابات الجماعة الإسلامية عليهم باعتبارهم متخاذلين أو مخامرين. انما الواضح ان السيد إمام عبدالعزيز الشريف خاض نزاعاً طويلاً على القيادة في التنظيم مع الظواهري، وأن الظواهري كسب عليه في النهاية لانحياز أكثر الكوادر اليه بسبب شخصيته القيادية على رغم الاشاعات عن انهياره في السجن في مصر، وإنشائه أسرار التنظيم في النصف الأول من الثمانينات. ويشير الدكتور فضل من طرفٍ خفي الى أن سبب انتصار الظواهري عليه يعود الى دعم بن لادن للظواهري مادياً، ووضعه في فلكه، أو أن الرجلين تكاملا: الظواهري بالتجربة والكوادر، وبن لادن بالعقيدة المتشددة، والامكانات الكبيرة. الدكتور فضل يُخطئ في فهم المسألة، فهو يعتقد أن الفقيه ينبغي أن يسود في التنظيم. وهو كذلك لدى الأصولية الشيعية، التي يحتاج فيها الأتباع الى مقلِّد، أما في الإسلام الأصولي السني، فالحاجة الأبرز الى قائد، الذي يستطيع إن لم يكن عالماً أن يضع الى جانبه فقيهاً أو مفتياً أو مربياً للشباب. وعلى سبيل المثال، فإن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين والتي أخذتها ايران مبكّراً، حاولت تقليد النموذج الخميني باتخاذ الشيخ عبدالعزيز عودة إماماً، لكن سرعان ما تركهم الشيخ عبدالعزيز وتركوه، وقادهم فتحي الشقاقي ثم رمضان شلّح، وكلاهما ليس فقيهاً. والاستثناء الوحيد، والذي لم يدم طويلاً الشيخ عمر عبدالرحمن الذي عمل فقيهاً وزعيماً للجماعة الإسلامية على رغم انه ما كان من المؤسسين، لكن الانقسام عليه ظهر حتى قبل ذهابه الى الولاياتالمتحدة. والأمر كذلك في حركة بن لادن أو تنظيمه، فهو ليس فقيهاً بل هو زعيمٌ وقائد، وعندما ذهب الى أفغانستان في المرة الثالثة 1996 اضطر لمبايعة الملاّ عمر بالإمامة لأن الطالبانيين البشتون كانوا قد زعّموه عليهم، وليس لأنه الأحق بالإمامة باعتباره الأكثر فقهاً! فالحركات الأصولية السنية الصغرى والكبرى، والتابعة للقاعدة وغير التابعة لها، تتبعُ القائد وليس الفقيه. وقد قمت بهذا الاستطراد الطويل، لمحاولة فهم ما جرى بين الشريف والظواهري عام 1992 في أفغانستان. كان الشريف قد ذهب الى أفغانستان قبل الظواهري، ولحق به الأخير، وهناك نافسه على الزعامة واستلبها منه ورضي هو بمرتبة فقيه التنظيم أو مفتيه. وبهذه الصفة نشر كتابه:"الجامع في طلب العلم الشريف". وبحسب رواية الشريف، فإن الخلاف بينهما بدأ آنذاك، وفي شأن القيام بعملياتٍ داخل مصر عارضها الشريف. لكن اذا كان الأمر كذلك، لماذا ذهبا معاً الى السودان، على رغم ان السنوات الأربع في السودان كانت كلها أعمالاً مسلحة أو إعدادات لأعمالٍ مسلحة، هل لأن الشريف لم يجد ملجأً آخر؟ أم لأن الخلاف لم يكن كبيراً، وكان الشريف لا يزال يشعر بالانتماء بقوةٍ الى التنظيم الذي عملَ له أكثر مما عمل الظواهري؟! والشريف من ناحيته يقسو على الظواهري كثيراً بحجة أنه شوَّه كتابه"الجامع". لكن بحسب ما قرأتُ في النسخة الأصلية غير المحرَّفة والمنشورة في لندن، ما وجدتُ فروقاً بارزةً ربما باستثناء الحرص على أمرين: عدم قتل المدنيين ولو بحجة"التدرُّس"المشهورة، وعدمُ التسبب بغبن في ديار المسلمين من طريق التدقيق في العمليات العسكرية ضد الأنظمة. وفي ما عدا ذلك، فالكتاب لا يصلح دليلاً مُرشداً لحركةٍ ثوريةٍ مسلحة، على رغم قوته الفقهية وتشدده، لأنه لا يملك رؤيةً للظروف الراهنة، بل يقرر الأمور مبدئياً، والحالات التي يذكرها قديمة قديمة، ولا يحرص على تلميعها أو تحديثها أو القياس عليها. أما وثيقة"ترشيد الجهاد في مصر والعالم"فهي أقوى وأوضح من الناحية الفقهية، ومن الناحية السياسية. هنا يعتنقُ الرجل مناهج الاجتهاد في اسلام المذاهب ويمزجُ بينها وينتقي ويختار. وهو شأن الفقهاء التقليديين يختارُ نهج المسالمة والحرص على وحدة الجماعة وتحريم سفك الدم. وعلى رغم اختياره المقاربة الفقهية البحتة لأنه يخاطب الشباب الذين لا تؤثر فيهم إلا هذه الطريقة، فإنه هنا مسيّس أكثر بكثير من عهد كتابه"الجامع". لكن يظلُّ مراجعو"الجماعة الإسلامية"أكثر تسيساً، ويظل الشريف أكثر احتفالاً بالتدليل الفقهي على الحل والحُرمة. وربما عاد هذا الفرق أيضاً الى ان مفكِّري الجماعة الإسلامية انما كانوا ينقدون تجربتهم بالدرجة الأولى، بينما يريد هو مخاطبة سائر المندفعين الى"الجهاد"من الطريقة البنلادنية والظواهرية والزرقاوية. ما دلالات وثيقة الشريف، وما آثارها؟ الشريف يقول في"الترشيد"? والمصطلح للشيخ القرضاوي وليس له ? ان أعمال الجهاديين كلها أضرت بالإسلام والمسلمين، فقد أساءوا فهم النصوص، وقتلوا أنفسهم، وضربوا مجتمعاتهم، وسلطوا الغرب على المسلمين المقيمين والمهاجرين، وتسببوا في خراب أفغانستانوالعراق، ولا يزالون يتسببون بالكثير من الآلام والدمار في عددٍ من أقطار المسلمين وبلدانهم. ولا شك في أن الوثيقة ستؤثر في الشبان الذين يذهبون الى"الجهاد"ولو من طريق الانترنت!. أما المرتبطون بأحد التنظيمات الجهادية فقد حسموا أمرهم بمعنى ان المنظمين سيكون صعباً التأثير فيهم وبخاصةٍ انهم ملاحقون. لكن من ناحيةٍ أُخرى، فإن"الجهادية"تجاوزت ذروتها عملياً بسبب الحملات التي تعرضت لها في كل مكان وفقدها للمبادرة. وهناك خطران جديدان، فالعنف يتراجع، والجاذبية تخف. انما الذي يطفو على السطح اليوم النزوعان القطبي والسلفي، من دون عنفٍ ماديٍ ظاهر، لكن في ميولٍ انفصاليةٍ قاسيةٍ عن المجتمعات والناس. هناك الرؤية الثورية لجاهلية القرن العشرين. وهناك"السلفية العلمية"التي تطبق الولاء والبراء بحذافيره ومن دون سفك دم. وفي الحالين يبقى الانفصال والانفصام الشعوري عن المجتمع، ويبقى التكفير، وتبقى الغُربة. لقد كان همُّ الشريف اقناع نفسه وإقناع قرائه بأن الجهاد الفردي أو التنظيمي ليس فريضةً وليس واجباً بل هو حرامٌ محرم. انه ليس جزءاً من تكليف"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والذي له درجاتٌ ثلاثٌ، وليس العنف فقط. وقد ثبت بالتجربة أن الضرر أكبر من النفع بكثير، بل انه لا نفع، على رغم التصرفات الأميركية المستنكرة. والأمر الآخر أو الثالث أن المسلمَ ذو ولاءٍ والتزامٍ تجاه مجتمعه ودينه، والمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولم يتسبب مباشرةً أو بالواسطة في انزال الضرر بهم، ثم ان المنبثّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وهذا كله مفيدٌ في الخلاص من العنف تحت اسم الجهاد. لكن ماذا نفعل مع الانكفاء والانكماش والتشدد الديني غير العنيف، وانما المنعزل والتارك لدينه المفارق للجماعة؟!