جاز التساؤل في السنوات العشر الفائتة، ولجّ هذه السنة حول دوافع تأجيل منح فيليب روث جائزة نوبل للآداب علماً أن الإجماع على استحقاقه اياها بات وطيداً لا يقبل الجدل. إلا ان التحقيق في تفاصيل هذا الاستحقاق يكشف مفاصل نوعية لا تجتمع مرة واحدة من دون تمحيص، طليعتها النقمة النسوية التي طاولت ما يعرف بشوفينية الذكور لديه، ثانياً لكونه شبيه صول بيلو الذي نال الجائزة عام 1976 والتشابه بينهما غير ضئيل، فهما يهوديان اميركيان تمحورت أعمالهما الأدبية حول الشخصية اليهودية في هجرتها إلى الولاياتالمتحدة. وأخيراً أدت إصابة آخر روايات روث بوعكة إبداعية أجمع النقاد على تسميتها: وداعاً روث، وداعاً زوكرمان نسبة إلى بطله او اناه الأخرى، مما سبب إحباطًا للنشوة التي عرفتها رواياته السابقة في الحقبة المنصرمة. إلى ذلك، بدأت شخصيات روث"تعرج"في انعكاسها المباشر لهواجسه وأوجاعه. في روايته"افريمان"الصادرة عام 2006، البطل من دون إسم، مصاب بفتاق يخضع بسببه لجراحة فتنفجر زائدته الدودية. يدخل المستشفى سبع مرات. تنسدّ أوردة قلبه فيضع الأطباء آلة ضخّ في صدره... ديفيد كمبيش في"الحيوان المحتضر"عام 2001 يصمد أمام ارتباكات الجسد، الا أن عشيقته تصاب بسرطان الثدي، ويموت أعز أصدقائه بجلطة دماغية. ثم بطله الذي احتل تسع روايات سابقة، ناثان زوكرمان، يتعرض لعقابات جسدية لا تعد ولا تحصى، بينها أوجاع الظهر التي أجبرته على ملازمة السرير، ثم أجريت له عملية قلب طاولت خمسة شرايين، ثم فشلت الجراحات المتكررة لمعالجة ركبته الملتهبة فأدمن المسكنات حتى سببت له الهلوسة. ويجب ألا ننسى جراحة البروستات التي تركته في عقم دائم وفقدان السيطرة على مثانته، وفي روايته الأخيرة"خروج الشبح"يحاول روث معالجة تلك الجراحة الفاشلة. زوكرمان يسمع بوجود علاج للعقم قوامه حقن المثانة بمادة صمغية وعلى هذا الأساس يغادر عزلته في الريف إلى مانهاتن بعد أحد عشر عاماً من الإبتعاد عن المدنية. لكن، وكما هو متوقع، تفشل الجراحة. مؤثراتها المفاجئة تحيره فيقرر مقايضة منزله الريفي بشقة في نيويورك علماً بأن تاريخه، هو المتبرم الدائم بالضجة والتلوث والحشد البشري والمجتمع التجاري الصلف، لا يوحي بذلك. فما الذي أعاده إلى مانهاتن؟ إمرأة جميلة تدعى جايمي توقظ فيه أحلامه الجنسية وزوجها كليمان الرياضي الوسيم يوقظ فيه روح المنافسة الذكورية. وهكذا، في الواحدة والسبعين من عمره يقرر زوكرمان إغماد حياته من جديد في الآن وهنا. النتيجة، للأسف، رواية ضعيفة صعبة التصديق بالكاد ينجح أبطالها في تلبس أنفسهم بقدر ما ينجح روث في المبالغة غير الموفقة لتثبيت حضورهم. أما مسألة الإحباط التي يثيرها العجز والشيخوخة فيصفها روث بتكرار الكليشيهات المعروفة كفقدان الذاكرة واللجوء إلى الشعر خصوصاً تي اس اليوت وأبياته الشهيرة حول مرارة الكهولة، إضافة إلى مقاطع معروفة من"قلب الظلمة"لجوزيف كونراد. مع ذلك لا شيء من هذا ينتشل"الشبح"إلى مستوى التخييل التواصلي مع القارئ وتبدو لعبة استعادة المرأة الجميلة التي عرفها زوكرمان في أولى روايات روث 1979 وقد جرى استئصال نصف دماغها، إمعانًا في الافتعال وترسيخاً لحبكة رخوة. صحيح أن زوكرمان"خدم عسكريته"وكان مجلياً في الروايات المبكرة مثل"الحياة المضادة"1987 و"ريف أميركا"1997 و"الوصمة البشرية"2000. لكن"الشبح..."جاءت بحق مثابة وداع جنائزي لزوكرمان. وربما أثرت سلباً على تطويب شيخ الرواية الأميركية المعاصرة بجائزة نوبل حتى الآن. مع ذلك، يبقى فيليب روث، باعتراف عالمي يستحيل دحضه أكثر روائيي الولاياتالمتحدة نفاذاً إلى القراء بسبب جمعه الفريد بين الثقافي - الجمالي وبين الشعبي - الحكائي. من مواليد نيو آرك عام 1933. بكر والديه هرمان وبيسي. تخرج من الثانوية في السادسة عشرة وذهب إلى جامعة شيكاغو للدراسة على يد صول بيلو. روايته الأولى صدرت عام 1959 وعنوانها"وداعاً كولمبوس"وحازت الجائزة الوطنية للكتاب. لكن شهرته لم تتقدم إلى الواجهة حتى صدور"شكوى بورتنوي"عام 1969. ولخمسة أعوام متوالية، في مطلع التسعينات، ارتفعت مبيعات كتبه جنونياً فحاز أهم 5 جوائز اميركية لأربعة كتب متتالية. وجاء ذلك بفعل قدرته البارعة على مناقشة المسائل الصعبة كالإيمان والزواج والأسرة، بلغة سهلة وأسلوب شيق، مع المحافظة الدؤوب على الإثارة الحسية. واشتهرت رواياته بحضور المادة الجنسية المشرفة أحياناً على حدود الإباحية من دون أن يبتعد نتاجه عن التحقيق في الشرط الإنساني ضمن عالم يزداد عدائية يوماً بعد يوم. على غرار معلمه بيلو، يرى روث الإنسان مخلوقاً ساقطاً، ولو أن سقوطه يقوده الى السرير في معظم الأحيان. الميزة الأخرى لنتاج روث هي لعبة ابتكار"السيرة المزيفة"عبر شخصية الكاتب اليهودي الأميركي الذي اشتهر بسبب نشره رواية فضائحية، وأصبح شخصية أدبية محفوفة بالفكاهة والجنس والخدع ما أفسح في المجال لمؤلفه ان يخترعه حسب ما يشاء: ناثان زوكرمان. يتفكه روث بأنه يزيف سيرته ويقدم تاريخاً مزوراً عنها ويفبرك حكايات منطلقاً من دراما حياته. ويصف هدفه الأدبي بشغف على انه ايقاع الضرر الحقيقي، وهو يعشق التفخيخ لقارئه. ففي رواية"عملية شايلوك"عام 1993 يصف بكل ثقة كيف كان جاسوساً اسرائيلياً في اليونان... لكنه ينهي الكتاب بقوله إن ذلك الاعتراف كذبة. ثم يعود ليقول أن الموساد أجبرته على استعمال هذه اللعبة... وفي"الحقائق"المفروض أنها سيرته الروائية يتهمه زوكرمان بأنه لم يعطه حقه نسبة إلى بقية أبطاله. إلا ان هذه اللعبة ما لبثت أن انقلبت عليه عام 1989 حين ظهر رجل على شاشة التلفزيون الإسرائيلي مدعياً أنه فيليب روث وانه يطالب بحلّ الدولة العبرية من أساسها. نشر فيليب روث حتى اليوم 28 كتاباً وها هو يقارب الخامسة والسبعين، ولا يبدو أنه سيتوقف عن النشر. لكن أبطاله شاخوا معه وبات الموت عوضاً عن الجنس قضيته المركزية. الموت والمرض: الكلى، الرئتان، العروق، الشرايين، الدماغ، المعدة، البروستات، القلب، كلها طفت على السطح فيما غرق إلى القعر ما شغل معظم سطوره في نصف قرن مضى.