ثمة أزمة حقيقية تمر بها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ليس فقط بسبب الانكشاف الفكري والسياسي الذي تعاني منه وليس لما وُجه إليها من انتقادات بسبب برنامجها الحزبي الذي طرحته أخيراً، خصوصاً ما يتعلق بقضايا المساواة والمواطنة وطبيعة الدولة، وإنما أيضاً بسبب الخلافات العميقة التي خلفتها بنود هذا البرنامج بين قيادات وكوادر الجماعة، والتي ظهرت في شكل واضح من خلال مواقفهم وتصريحاتهم المتناقضة التي تناولتها وسائل الإعلام خلال الأسابيع القليلة الماضية. بالطبع هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها الجماعة لأزمة داخلية، لكنها الأكثر حدة، والأعلى صوتاً طيلة العقد الماضي، وتحديداً منذ أزمة شباب حزب الوسط عام 1996، التي كانت سبباً في حدوث انشقاق"جزئي"داخل الجماعة، لا يزال جرحه مفتوحاً حتى اليوم. كما أن هذه الأزمة تأتي في وقت لا تتمتع الجماعة بوجود قيادات كاريزمية قادرة على الاحتواء والتخلص من أي تداعيات سلبية قد تؤثر في صورة الجماعة داخلياً وخارجياً. كسر عظم داخلي تمكن الإشارة إلى ثلاثة مؤشرات رئيسة تكشف طبيعة الأزمة الراهنة التي تمر بها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، أولها البون الشاسع بين قيادات الصف الأول في الجماعة في ما يخص كيفية التعاطي مع القضايا الجدلية التي أثارها البرنامج الحزبي، خصوصاً ما يتعلق بالأقباط والمرأة. ففي الوقت الذي يطالب تيار"ضعيف"داخل الجماعة بضرورة إعادة النظر، بجدية، في هذه القضايا مع الاستعداد لإبداء مزيد من المرونة، إذ يتم إدخال تعديلات جوهرية عليها، فإن ثمة تياراً آخر، أكثر قوة ونفوذاً، يرى عكس ذلك، ويصر على موقفه الرافض لإجراء أي تعديلات تتعلق بالمرأة والأقباط. هذا التيار"المتنفذ"يتمتع بوضع تنظيمي وإداري مهيمن على عملية صنع القرار داخل الجماعة، وهو ما تؤكده التصريحات المتتالية التي يطلقها رموزه، ولا يبدي أنصاره أي استعداد للتنازل عن مواقفهم إزاء هذه القضايا على رغم الموقف الحرج الذي تسببه للجماعة. وقد لا يبدو غريباً أن تكون هناك تيارات ورؤى متباينة داخل"الجسد"الإخواني الكبير، بيد أن المعضلة تكمن في كيفية إدارة هذا التباين بما لا يؤثر في وضع الجماعة وصلابة موقفها في مواجهة خصومها السياسيين. فضلاًً عن محاولة البعض داخل الجماعة توظيف هذا التباين من أجل تحقيق مصالح تنظيمية خاصة به، بغض النظر عن مصلحة الجماعة، وأدى الفشل في إدارة الخلاف بين هذين التيارين إلى غموض وتضارب موقف الجماعة من القضايا التي سبق الإشارة إليها. ثانيها، ثمة مؤشرات على وجود معركة كسر عظم تجري حالياً داخل صفوف الجماعة، خصوصاً في المستوى القيادي، فثمة تيار"انتفاعي"يسعي للإفادة من مرحلة الضعف المحنة التي تمر بها الجماعة منذ آخر كانون الثاني ديسمبر الماضي، ومحاولة ملء الفراغ التنظيمي والقيادي الذي حدث نتيجة اعتقال عدد من قيادات الصف الأول وتحويل بعضهم لمحاكمة عسكرية، لعل أبرزهم خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام للجماعة، الذي يسعي بعض أفراد هذا التيار للحلول محله بأي ثمن. ويعتمد هذا التيار"الانتفاعي"في مسعى تدعيم مركزه التنظيمي على أدوات عدة، فمن جهة يحاول أنصاره أن"يلبسوا"عباءة الدفاع بشراسة عن وجهة نظر شيوخ الجماعة، أو ما يعرف بتيار"المحافظين"، وتبني وجهة نظرهم في ما يخص رفض تعديل البرنامج الحزبي للجماعة، خصوصاً في ما يتعلق بمسألتي المرأة والأقباط. ومن جهة ثانية، يعمد هؤلاء إلى الدخول في مواجهة حادة مع تيار"الواقعية الإصلاحية"، من أجل إحراجه أمام القواعد الإخوانية، من خلال اتهامه بپ"الشذوذ"والابتعاد عن الخط العام للجماعة، وذلك بهدف إضعاف الوزن النسبي لرموز هذا التيار في عملية صنع القرار داخل الجماعة، وهي محاولة تبدو ناجحة حتى الآن. ومن جهة أخرى، يحاول أنصار هذا التيار"المتنفذ"تعبئة القيادات الوسطى في الجماعة في مختلف مستوياتها التنظيمية شعب ومناطق ومكاتب إدارية، من أجل تدعيم وجهة نظر المحافظين وشيوخ الجماعة في مواجهة الإصلاحيين، وذلك بهدف تقوية الأوراق التنظيمية لهذا التيار وضمان الحصول على تأييد القواعد الإخوانية له في أية انتخابات داخلية قد تجرى سواء على مستوى مجلس الشوري العام أو مكتب الإرشاد، والمجمدة منذ نحو أربعة عشر عاماً. يبدو عدم قدرة الجماعة على إدارة أزمتها الراهنة داخلياً وخارجيا واضحاً، فهي لم تفلح في التعاطي مع المواقف والرؤي المتباينة داخل صفوفها، وكانت النتيجة خروج هذه الخلافات عن السيطرة وانتقالها إلى صفحات الجرائد وشاشات التلفزة. وبحسب بعض المصادر، تعمدت قيادة الجماعة منع بعض المحسوبين على التيار"الإصلاحي"من الإدلاء بأية تصريحات أو آراء قد تكون مخالفة للموقف العام للجماعة خصوصاً ما يتعلق بالقضايا التي أثارها البرنامج، وتفويض بعض رموز التيار المحافظ التعبير عن الرأي الرسمي للجماعة. كما فشلت الجماعة في إدارة أزمة برنامجها الحزبي مع الإعلام والنخبة. وأصيبت بحال من الارتباك بسبب التصريحات التي أدلى بها أخيراً عدد من قياداتها وكوادرها أمثال عصام العريان رئيس اللجنة السياسية بالجماعة، وعبدالمنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بالجماعة، والقيادي جمال حشمت. والأبرز على هذا الصعيد ما قامت به قيادة الجماعة، في محاولة للتبرؤ من تصريحات المخالفين لتوجهات التيار المحافظ، من توجيه تعنيف شديد لبعض الوجوه الإصلاحية وهو ما أضر بصورة الجماعة إعلامياً وسياسياً. في حين سعت بعض القيادات الطامحة لمناصب عليا داخل التنظيم الإخواني إلى استغلال هذه التصريحات، من أجل تحقيق مكاسب خاصة بها على حساب هؤلاء"الإصلاحيين". وعمقت الجماعة صدع"انعدام الثقة"الموجود لدى قطاع واسع من النخبة المصرية، وذلك بسبب التعليقات"المتشنجة"التي وجهها عدد من قياداتها وكوادرها للباحثين والمراقبين الذين انتقدوا البرنامج، معتبرين ملاحظاتهم وانتقاداتهم نوعاً من"الحقد"والتآمر على الجماعة. تعديل شكلي يعمق الانقسام أما في ما يخص إمكان قيام الجماعة بإدخال تعديلات جوهرية على برنامجها الحزبي، خصوصاً ما يتعلق ببندي المرأة والأقباط، والاعتراف بأحقيتهما في تولي منصب الرئاسة، فلا توجد مؤشرات على ذلك. بل على العكس، تشير تصريحات العديد من أنصار التيار المحافظ إلى أن هذين البندين الأقباط والمرأة خط أحمر لن يتم تجاوزه تحت أي ضغط. ووصل الخلاف حول هذا الأمر إلى حد تناول الصحف المصرية التجاذبات الداخلية التي حدثت على مستوى مكتب الإرشاد بين بعض صقور التيار المحافظ، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح أحد أبرز الوجوه الإصلاحية في الجماعة، حول مسألة إجازة تولي المرأة والأقباط منصب الرئاسة. الأكثر من ذلك الهجوم الذي قام به أحد القيادات الوسيطة في الجماعة وانتقاده بعض القادة الإصلاحيين في مقال له نشر على الموقع الالكتروني للجماعة، وهو ما أثار استياء أوساط من القواعد الإخوانية، التي تتعاطف مع هؤلاء الإصلاحيين وترغب في حدوث انفراج فكري وتنظيمي داخل"الصف"الإخواني، ودفع ببعضهم للهجوم على ذلك القيادي علناً والمطالبة بإجراء تحقيق داخلي معه. واقعياً، تبدو الجماعة منقسمة على نفسها في ما يخص مسألة الأقباط والمرأة، وهو انقسام داخل التيار المحافظ نفسه، وثمة وجهتا نظر يجرى تداولهما حالياً في هذا الشأن، الأولى ترى بأنه لا مانع من تعديل هذين البندَين بحيث يتم النص على كفالة حق الترشح لكل من المرأة والأقباط للمنصب الرئاسي الولاية العامة، ولكن من دون أن يُسمح لأعضاء الجماعة باختيار أي منهما للمنصب المذكور. ويستند أنصار هذا التيار إلى حجج منها عدم جواز ذلك شرعاً انطلاقاً من استطلاع آراء بعض العلماء والرموز الدينية كالدكتور يوسف القرضاوي والدكتور أحمد العسّال الفقيه المعروف. كما يحاجج أنصار هذا التيار بأن فهم الجماعة للمرجعية الإسلامية يتسق مع نص المادة الثانية من الدستور المصري التي تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، ما يعني أحقيتها في اللجوء إلى الاجتهادات الفقهية التي تراها ملائمة لخطابها السياسي. أما وجهة النظر الثانية فترى أنه لا يجوز ترشيح أياً من الأقباط أو المرأة لهذا المنصب، وأنه لا يوجد سند"شرعي"يعضد مطالب"الإصلاحيين"في هذا الصدد. وهو ما دفع بعض الصقور إلى مطالبة الإصلاحيين بتقديم الدليل"الديني"على جواز تولي القبطي والمرأة منصب الرئاسة. لذلك لا يبدو أن ثمة تغيراً حقيقياً سيطرأ على موقف الجماعة من هذه المسألة، وأغلب الظن أن تأخذ الجماعة بالرأي الأول، ما يعني عدم الاكتراث بمعظم الانتقادات التي تم توجيهها من المراقبين والباحثين كافة. وهو ما يلقي بظلال وثيقة حول مدى اعتقاد الجماعة في قيم المساواة والمواطنة بين المواطنين كافة من دون تمييز بسبب الدين أو النوع. خسائر على الحافة من الصعب توقع خروج جماعة الإخوان المسلمين من أزمتها الراهنة، من دون خسائر حقيقية، خصوصاً إذا ما استمر خطابها السياسي والفكري على حاله من الانغلاق، فضلاً عن ارتفاع سخونة الاستقطاب التنظيمي بين تياري الصقور والحمائم. ولعل أولى هذه الخسائر فقدان الجماعة جزءاً مهماً من رصيدها السياسي الذي حققته طوال العامين الماضيين، ليس فقط بسبب موقفها"المتشنج"من مسألة تعديل برنامجها الحزبي، والذي ألقى بظلاله على نظرة الكثير من المتعاطفين والمؤيدين للجماعة، وإنما أيضاً بسبب انعدام الانسجام الفكري والسياسي بين قيادات الجماعة وكوادرها. الخسارة الثانية تأكيد الصورة السلبية عن الجماعة باعتبارها جماعة محافِظة لا تقوى على تغيير لغة ومضمون خطابها الفكري والسياسي، ما يعني تقليل فرص الالتقاء بين الجماعة وغيرها من الفصائل السياسية التي تحترم قواعد اللعبة الديموقراطية وفي مقدمها المساواة والمواطنة. الخسارة الثالثة أن من شأن استمرار مثل هذه الأزمة تعميق حال الاحتقان الداخلي بين تياريّ المحافظين والواقعيين"الإصلاحيين"، وبالتبعية بين من يدور في فلكهما، ما قد يهدد، في حال ارتفاع أسهم الإصلاحيين وزيادة تأثيرهم لدى القواعد، بحدوث شرخ غير مألوف في"البنيان"الإخواني.