لفت انتباه الصديق سلامة كيلة مدى الرغبوية في تحليلي لتوازي انقسام الطيف الحداثي السوري مع تفكك عملية البناء الوطني في البلد مقالتي: في توازي التفكك الوطني وأقسام الطيف الحداثي في سورية، الحياة، 28/10/2007، دون أن يوضح لماذا قد أرغب في ذلك. ورأى أني أحب التصنيفات الستاتيكية، دون أن يقول لماذا التمييز بين أربعة تيارات في الطيف الحداثي السوري، ليبرالي وعلماني وديموقراطي ويساري، هو"تصنيف ستاتيكي"، ودون أن يقترح تصنيف ديناميا مقالته: تعقيب على ياسين الحاج صالح... التفكك الوطني والطيف الحداثي في سورية، الحياة، 12/11/2007. ويقرر أني أريد التخلص من ماضيّ اليساري، دون أن يوضح لماذا قد أريد ذلك، وكيف استدل عليه. ويرى أني استخدمت تعبيرا مموها هو"اليسار"، دون أن يقول ما هو التعبير غير المموه. ويعتقد أني طوقت كلمة اليسار ب"مزدوجين"فيما الكلمة حرة في النص، و"المزدوجان"موجودان في خياله فقط. على هذا النحو يجري نقاش سلامة. كلام تقريري مرسل، منزه عن أي حس إشكالي، مصاغ بلغة كابية لا تبين، كأنما المقصود منها فطام القارئ عن القراءة. لنتوقف قليلا عند"المزدوجين"اللذين رآهما سلامة يحاصران كلمة اليسار في مقالي. أستبعد أن يكون تعمد اختراعهما، أو دسهما على مقالي بدافع من سوء النية. وأرجح أن استواء صورتي في ذهن سلامة اقتضى أن أضع"مزدوجين"حول كلمة اليسار، فلا تطابق الصورة هذه حقيقتها إلا إن فعلتُ ذلك، تماما كما أن الليبراليين والعلمانيين والديموقراطيين هم في الحقيقة ليبراليون، حسب"براهين"سلامة القاطعة. لقد"رأى"سلامة"المزدوجين"لأنه يرى بنظريته لا بنظره"ولا نفع من العين، والحواس جملة، في هذا المجال، بل هي قد تشوش صفاء عين النظرية وتجلب"الواقع"المختلط إلى مرقدها الهانئ. ووحدها"نظرية"سلامة التي ترى"مزدوجات"حيث لا توجد تنفذ إلى ما وراء"ما يظهر على السطح"، وتتجاوز الأحكام المبنية على"نظرات سريعة"هذه تعابيره، و"المزدوجات"من عنده هو قبل أن تطيح ب"التلمسات الحسية"، وهي الحدود التي لم يتجاوزها مقالي طبعا، ما يشير إلى أن"نظرية"سلامة أكثر اتساقا في رفضها لفعل النظر والاعتناء بالمحسوس مما قد يكون قصد هو ذاته. فإذا فات المحسوس نظرية ما، وهو يفوت نظرية صديقي سلامة منهجيا، لم يعد ثمة ما يحول دون النقاش حول جنس الملائكة. لكن ما هي نظرية سلامة؟ هو لا يسميها، لكن في إحالته الرمزية إلى"الموقف من الاقتصاد"كفيصل للتمييز بين التيارات الإيديولوجية والسياسية، وتنويهه الذاتي ب"اليسار الماركسي"الذي يُفترض أنه"يبلور رؤية ديموقراطية علمانية غير ليبرالية لأنها تتبنى مصالح الطبقات الشعبية ضد الرأسماليين القدامى والجدد"، ما يشير إلى ماركسية عامية تكتفي من الاقتصاد والمشكلات الاجتماعية باستخدامها شعارا أو رمزا يميزها عن غيرها، ويضمن تعارف أتباعها وهويتهم المشتركة، لكن دون أن تتكلف شغلا نظريا أو عمليا حول هذه الشؤون. الواقع أنه يحصل أن"ليبراليين"من أمثالي يتطفلون على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، لكنها تبقى موضوعا لهم، فيما الماركسي العامي في غير ما حاجة إلى الاشتغال عليها، فهي ذاته وهويته. وقد نلاحظ أن ماركسية تميز نفسها ب"الموقف من الاقتصاد"متراجعة كثيرا، فكريا وسياسيا، عن مقاربات ماركسية نقدية عرفناها في سورية بالذات قبل أكثر من ثلاثين عاما. ولكان ياسين الحافظ تقلب في قبره لو بلغه تمييز للماركسية بلغة"الموقف من الاقتصاد"و"تبني مصالح الطبقات الشعبية"، ولظن أن"الرفيق الخالد"خالد بكداش هو المتكلم. على أن سلامة لا يقف هنا، بل يمضي إلى استعادة الانعزالية الشيوعية القديمة، التي تقرر أننا وحدنا على حق وجميع الآخرين على باطل. على طريقة قول الفقهاء المسلمين القدامى:"الكفر ملة واحدة"، يرى سلامة أن الليبراليين والديموقراطيين والعلمانيين هم جميعا ليبراليون في الحقيقة. وتصدر هذه السمة المميزة للأصوليات جميعا عن نزعة تمركز حول الذات، تقرر أن كل من هم ليسوا مثلي مثل بعضهم: غير المسلمين كفار، وغير"اليسار الماركسي"ليبراليون، وغير فسطاطنا الخيّر ليس ثمة غير فسطاط الشر. ولعل هذه القسمة المانوية هي"التصنيف الديناميكي"الذي يقترحه سلامة للتيارات الإيديولوجية السياسية في سورية. وفوق هذا كله يبدو أن يسار سلامة الماركسي هو الديموقراطي الحقيقي والحداثي الحقيقي والعلماني الحقيقي، وربما الليبرالي الحقيقي، فوق كونه الاشتراكي الحقيقي طبعا. فهو ينكر على العلمانيين والديموقراطيين أن يكون لديهم"مشروع ليبرالي متماسك"، ويقرر أنهم لا يعملون"من أجل انتصار مشروع حداثي، ولا حتى انتصار الديموقراطية أو العلمانية". فالتيارات هذه"تتوافق [كذا] على أنها ليست ديموقراطية". لم يقل سلامة إن"يساره الماركسي"هو القومي الحقيقي أيضا، لكن إشكاليته لا تقول غير ذلك. كيف أمكن لهذا النكوص الإيديولوجي أن يحصل؟ لعل في أساسه تحول الماركسية عند أصناف من اليساريين السوريين إلى هوية تمييزية، ما يجعل نقدها تهديما لكيانهم بالذات. هذا متصل بخصائص التكوين الاجتماعي السياسي السوري، وبالتحديد بواقع غياب حقل سياسي وحقل ثقافي يؤكد فيهما الأفراد ذواتهم كفاعلين مستقلين، ما يغنيهم عن الحاجة إلى هويات جزئية منغلقة على ذاتها. ولهذا بدوره صلة بشرط التفكك الوطني الذي تناوله مقالي المنقود، مما لا يتسع المقام لبسطه. ويعطي"منهج"سلامة في عرض أفكاره والبرهنة عليها فكرة أوضح عن نكوص ماركسيته إلى ما قبل سبعينات القرن العشرين. ترد عبارة"وبالتالي"، التي تفيد استنباطا منطقيا للاحق من سابق أو ربطا سببيا بينهما، أحد عشر مرة في نصه. هاتان عيّنتان: 1"الصديق ياسين يحب التصنيفات الستاتيكية، التي يحددها بناءً على أشكال تنشأ أمام ناظريه [عند سلامة، ربما تنشأ الأشكال أمام نظريته]، ودون أن يحدد معانيها، وبالتالي فهو ليس معنياً بمضامينها""2"ربما كان"الخواء الأيديولوجي الحداثي"، وهو ما تتسم به مختلف الاتجاهات [الليبرالية والعلمانية والديموقراطية..]، يسهم في التأثر في"الوعي التقليدي"الموروث، والذي هو منقسم إلى طوائف، وبالتالي فهذه تطال كل التنويعات، لكن لا نستطيع أن نجمل الاتجاهات في ذلك". والحال يستطيع المرء أن يكون"يساريا ماركسيا"ويقول كلاما مفيدا. أما أن يقرر شيئا بلا برهان، ثم يرتب عليه بلا تماسك نتائج مصاغة بلغة بلا بيان، فهذا هو الخواء بعينه. أم تراه هو"المنهج الجدلي"؟ بل هو"قياس فقهي"لا أكثر ولا أقل: يعرض سلامة مقالي أو أي نص آخر على آلته المعرفية، التي تنافس إحاطتها بمنطق أرسطو معرفتها بجدل ماركس أو هيغل على الانعدام، ولا يتجاوز نصيبها من ديكارت الشك في .. أفكار الآخرين، فتصدر أحكاما معيارية تقرر ما هو"صحيح"وما ليس كذلك. ببراءة مؤثرة يقرر سلامة أني أحدد الفروق بين الليبراليين والديموقراطيين والعلمانيين"بشكل صحيح"، ويتفضل بالموافقة على جملة وردت في مقالي "أوافق مع ما قاله..."، وهذا كلام لا يمكن أن يصدر إلا ممن ملأ يده بالحقيقة، من يفترض أن الحقيقة طوع بنانه. وليس واضحا، بعد، ما إذا كان العنت الذي تلاقيه اللغة العربية، نحوا وقاموسا وبيانا، على يدي سلامة، متصلا"بالموقف من الاقتصاد"، وعنصرا ضرورية لهوية اليسار الماركسي. الأكيد، على أية حال، أن إساءة معاملة اللغة سمة مشتركة بين جميع الإيديولوجيات والتنظيمات والنظم الشمولية. هذه في الختام نقطة تتصل بمضمون النقاش. يعتقد سلامة"أن عودة ما يسميه الصديق ياسين ب"التفكك الوطني"، أي النزعات والتبلورات الطائفية، جاء نتيجة تفكك الطيف الحداثي". الواقع أن مقالي كان يقول العكس تماما. تفككت الأمة بعد أن لم تكن متماسكة في الواقع فانقسم الطيف الحداثي، ووقع تحت جذب الأقطاب الثلاثة، الأميركيين والنظام والإسلاميين. وكان غرضي من هذا التحليل القول إن الطيف الحداثي ليس حزبا أو تحالفا، وأن وحدته المحتملة أثر لبناء الأمة، جماعة المواطنين المستقلين المتساوين. ولأن المجتمع السوري متعدد دينيا وإثنيا ومذهبيا، ولأنه ضعيف الاندماج، أي لأن تكون الأمة بقي هشا، فإن تفككها يسير ترجيحا وفق خطوط التمايزات الأهلية، تماما كما ينشق ثوب من موقع خياطته إن لم تكن هذه متينة. ومعلوم أن ثوبنا الوطني لم يبلغ يوما من المتانة ما يجعله منيعا على التمزق. لكن يبقى المتغير الأساسي هو مستوى انبناء الأمة أو تشكلها. أما الواقعة الطائفية فمشتقة، وذات علاقة عكسية مع تشكل الأمة. هذا، مركزية مسألة بناء الأمة، ما لم يدركه سلامة، ربما لأنه أسير فهم اسمي لمفهوم الأمة ذاته. * كاتب سوري.