بعيد احتلال العراق، انتظم المشهد "الحداثي" السوري في أربع تنويعات سياسية إيديولوجية : الليبراليين والعلمانيين والديموقراطيين واليساريين. انحازت التنويعة التي قد تصف نفسها بالليبرالية إلى الأميركيين ضد النظام، وأكثر منه ضد الإسلاميين. وتشكلت مجموعات ليبرالية متنوعة وقتها، لكنها ظلت هامشية حتى بالقياس إلى مجموعات المعارضة السورية الضعيفة. ثم إنها لم تلبث أن اضمحلت مع تكشف المصير الكارثي الذي انزلق إليه العراق تحت الاحتلال الأميركي. التنويعة التي تعرف نفسها بالعلمانية تجد نفسها أقرب إلى النظم الحاكمة التي تبدو لها متراسا ضد الأصولية. وهي بهذه الصفة نزّاعة إلى التحفظ على الديموقراطية، وقد ترى فيها قناعا لسيطرة"الأكثرية العددية"، التعبير الذي يتخذ في السياق السوري معنى أكثر عينية مما يبدو للوهلة الأولى. أما التنويعة الديموقراطية التي تضع التغلب على الاستبداد في رأس أجندتها، فتجد نفسها قريبة من الإسلاميين، ومن المفهوم تالياً أن لا تُعنى بقضية العلمانية، إن لم تعتبر قناعا للديكتاتورية. وليس ثمة سياسة يسارية يمكن التعرف عليها. اليساريون الذين يهتمون أكثر ب"مقارعة الامبريالية"و"مناهضة العولمة"يجدون أنفسهم في صف"الممانعة"، الصف الذي يشغل فيه النظام موقع العريف. والأقوى اهتماما منهم بالحداثة العقلية والاجتماعية أقرب إلى العلمانيين أو الليبراليين، فيما الأكثر اهتماما بالمسائل الاجتماعية أقرب إلى التنويعة الشيوعية التقليدية، يجمعون بين مساندة النظام في سياسته الخارجية والتحفظ على سياساته الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية. ومهمٌ أن نذكر أن أكثر الليبراليين والعلمانيين، وقسماً مهماً من الديموقراطيين، هم يساريون ماركسيون سابقون. القوى هذه منقسمة جدا على ذاتها، الأمر الذي يتبدى من واقع أنها تجد نفسها أقرب إلى واحدة من قوى الثالوث الأساسية: الأميركيين، النظام، الإسلاميين. غير أنها تبدو اليوم شريكة في تجربة الخيبة أيضاً. الليبرالي خائب الظن بالأميركيين، والعلماني مرتاع من حرص النظام على مراعاة إسلاميين مقربين منه، وتتسع فجوة ثقة بين الديموقراطيين والإسلاميين السياسيين. وخريطة القوى"الحداثية"هذه حديثة جدا هي ذاتها، حصيلة تطورات بضع السنوات الأخيرة، بعد احتلال العراق تحديدا. فهل يمكن أن تتقارب هذه التنويعات المنقسمة على أسس أكثر إيجابية؟ من أجل إجابة أقل اعتباطية، قد يفيد أن نتساءل عن سر تفكك"الإجماع التقدمي"، أو الأكثرية الوطنية السورية التي كانت تكونت على أرضية قومية وتقدمية اجتماعيا في خمسينات القرن العشرين وحتى ربما أواسط سبعيناته. تظاهر التفكك هذا في أواخر سبعينات القرن الماضي، حين انقسم اليساريون والتقدميون السوريون حول الموقف من الأزمة الوطنية والاجتماعية التي شهدتها البلاد وقتها على شكل صراع متفجر بين النظام والإسلاميين. صاغ طرف أول موقفه بلغة المسؤولية عن الأزمة، وحملها للنظام، وصاغ طرف آخر موقفه بلغة الخطر القادم، وجسده في الإسلاميين. ولم يكن الانقسام هذا ذاته إلا أثرا لإخفاق عملية البناء الوطني في سورية، العملية التي كان من شأنها أن تتمخض عن قيام وطنية سورية تقدمية، تستوعب أكثرية السوريين كمواطنين متساوين، والتي وعت ذاتها بلغة القومية العربية والاشتراكية. كان أخذ يتسارع في النصف الثاني من السبعينات مزيج من الانغلاق السياسي والفوارق الاجتماعية والسياسة الأهلية، وسم عملية البناء الوطني السورية. قفز عدد المليونيرات حسب باتريك سيل من 55 عام 1963 إلى 2500 عام 1976، وشرع اليساريون السوريون يتحدثون وقتها عن البورجوازية البيروقراطية والبورجوازية الطفيلية، المتكونتين في كنف النظام وبرعايته"وتفاقم تمركز النظام حول المكون الأمني، ولجوؤه السهل إلى سياسة القوة في الداخل والمحيط الإقليمي"وأخذ العنصر الأهلي في تكوينه يظهر بصورة فجة. ولم ُعدم هذه العناصر رموزاً في النظام تدل عليها آنذاك حتى إذا ما أقصيت استمرّت البنية القائمة على ركائز أمنية وأهلية، والتي تكونت بموجبها شريحة من أثرياء السلطة، وإن بأشكال أقل فظاظة وسقم ذوق. بالنتيجة، أخذت"الأمة السورية"تتفكك، وأسهمت نكبة الثمانينات، وهي أسوأ بلا شك من هزيمة حزيران يونيو 1967، في دفع التفكك إلى الأمام وفي تعويضه عبر نموذج الدولة الماسكة. وبقدر ما كان الإجماع التقدمي حلا مبدئيا للانقسام الأهلي، فإن تفككه سيعيد العنصر الأهلي إلى الصدارة. وإذ ضعفت شخصية سورية بعد أن لم تكن قوية أصلا لحداثة سنها، برزت شخصية التكوينات الأهلية كأطر طبيعية للمعرفة والسياسة والحياة. العنصر هذا أساسي في انقسامات"الحداثيين"السوريين اليوم، لكنه ليس سببها. في بلدان عربية أقل تعددا أهليا من سورية، كمصر وتونس، لا يظهر الطيف الحداثي تقاربا أقوى. لكن انقسامات الطيف الحداثي توازي خطوط التمايزات الأهلية في سورية لأن التفكك الوطني ينزع تلقائيا إلى التوافق مع خطوط التمايز هذه. وفي الحصيلة، فإن انقسام وتشرذم القوى الحداثية وثيق الصلة بالانقسام الوطني الذي تسارع في النصف الثاني من سبعينات القرن السابق، المتصل هو ذاته بفشل الوطنية التقدمية السورية وتفكك الأكثرية التي تشكلت حول العروبة والاشتراكية. بيد أن تحليل المدى المتوسط هذا يحتاج أن يبنى على تحليل للأمد الطويل، نفتقر إليه بشدة في سورية. فإذا رجعنا أكثر إلى الوراء بدا لنا أن عملية البناء الوطني السورية ونظيراتها العربية هشة الأسس، دون اندماج اجتماعي، دون إصلاح ديني، ودون استيعاب على مستوى النخبة للقيم الليبرالية التي تقوم عليها الدولة والمواطنة. فضلا عن أن سورية جزء من نظام جيوسياسي شرق أوسطي، عربي إسرائيلي وأميركي سوفياتي، ونظام جيوثقافي عربي إسلامي، وهما نظامان لا مجال لحل مشكلاتهما في بلد واحد. في الحصيلة، انقسمت"الأمة"في سورية إلى سلطة بلا مشروع متمركزة حول ذاتها وبقائها، وإلى هوية تجنح إلى تعريف نفسها بالدين، وتطالب لنفسها بالسلطة. وحولهما أطياف إيديولوجية وسياسية، ضعيفة اجتماعيا، لا تستطيع أن تتماهى مع أي منهما ولا أن تستقل بنفسها. وتشابك الانقسام هذا مع التمايز الأهلي يفاقم عجز الطيف الحداثي هذا عن الاستقلال والتماسك. ما من مشروع وطني في جميع الأحوال: السلطة تجعل من نفسها مشروعا من هنا"شخصنة"السلطة، التي تعني أن شرعية السلطة تنبع من ذاتها وعبقريتها، والإسلاميون يجعلون مما يفترضونه"هوية الأمة"مشروعا جاهزا، والحداثيون أضعف، اجتماعيا وسياسيا وفكريا، من أن يطوروا مشروعا مستقلا. الغرض أن نقول إن التباعد والانقسام الراهن في الطيف الحداثي السوري لا يرتفع دون ارتفاع أسبابه، أي الانقسام الوطني أو فشل عملية بناء الأمة. والتقارب المحتمل لتلوينات الطيف المذكور يتعذر أن يكون إلا أثرا لنشوء أكثرية وطنية واجتماعية جديدة، تتجاوز الانقسامات الأهلية، وتؤسس لإجماع وطني جديد. وستبقى الجهود التي يمكن أن تبذل في شكل تحالفات سياسية أو تقاربات فكرية أو تفاهمات عملية محدودة الفائدة ما لم تندرج ضمن جهد منسق لإعداد الأرضية المادية والمعنوية لنشوء أكثرية جديدة.