أخيراً كفت الصغيرة حلا عن الهرب، بعدما تبين لها أن ما كان يخيفونها منه ليس سوى دخان السجائر. "أنا ماهربش من أبي لما يدخن"، تقول حلا 5 سنوات، إذ أدركت أن قول بعض الأسرة لها: "اهربي اهربي"، كلما شرع عمّو محمد بإخراج القداحة لاشعال سيجارته، هو تماماً ما يفعله والدها. فلمَ الخوف، إذاً؟ حالة حلا التي تنتمي الى اسرة بعض افرادها صحافيون او يعملون في مؤسسات صحافية، تشير إلى مشكلة تنشئة الصغار ازاء التدخين وصعوبة التوعية العامة، في مجتمع تتدنى فيه الثقافة الصحية بين الكبار، فكيف بالصغار؟ ولطالما شوهد أرباب اسر يتمتعون بمستوى عال من التعليم، وهم يدخنون وفي حضنهم صغيرهم الذي قد لا يتعدى سن الثالثة. يحتار الصغير بين ما قد يقال له في المدرسة او التلفاز حول اخطار التدخين وبين سلوك الأم أو الأب الذي يعد بالنسبة إليه مثالاً أو قدوة. وتبين حالة حلا انحيازاً للأب، وتعنّتاً يزيد من صعوبة برامج مكافحة التدخين في المدارس وأوساط الصغار. وتعاطي القات في اليمن لا ينقص من نسبة المدخنين، ففي العادة، يدخن الشخص اثناء"تخزين"القات، كمية مضاعفة من السجائر، بينما تشيع"المداع"النرجيلة بين النساء المخزنات. وثمة نسوة لا يدخنّ الا حين يتعاطين القات. وطبقاً لدراسة ميدانية فإن اليمنيين يدخنون 6.4 بليون سيجارة سنوياً، أي ما يعادل 317.5 مليون علبة سجاير، وبواقع 870 ألف علبة يومياً. وبحسب الدراسة التي أعدها أحمد حسين الحداء، المدير التنفيذي لصندوق رعاية النشء والشباب، فإن أعقاب السجائر، إذا ما رُميت في خط متّصل، لشكّلت شريطاً يبلغ طوله 508 آلاف كيلومتر، أي 18 مرة قطر كوكب الأرض. وتقول الجمعية اليمنية لمكافحة التدخين أن نسبة المدخنين في اليمن تُعتبر من أعلى النسب عالمياً، وبلغة الأرقام، فإن 85.7 في المئة من الرجال مدخنون و30.2 في المئة من النساء مدخنات. وهناك 3.4 مليون مدخن في البلاد، أعمار 29.2 في المئة منهم تتراوح بين 17 و24 سنة، ويقدر ما انفقه اليمن على التبغ، العام الماضي 21.3 بليون ريال. علاوة على ذلك فإن"المقيل"وهو المكان لقاءات مخزّني القات، يتلبد بالدخان. وقلة هي الأسر التي تمنع صغارها من الدخول الى غرفة المقيل ومجالسة المدخنين. وبدا أن السماح للصغار بالبقاء في تلك المجالس بين المدخنين يعكس نفسه على خيال الاطفال. وباتت رهف 6سنوات تقول لوالدها:"بابا تتحداني أخرج دخاناً من منافسي"، ظانة أن في وسع الشخص نفث الدخان من أماكن اخرى غير فمه. والواضح أن مخيلة الصغار في شأن التدخين ترتبط بوضع عام تسوده اللامبالاة وانعدام القواعد الصحية. وقلة هم الذين يعلمون بوجود قانون يحظر التدخين في الاماكن العامة ووسائل المواصلات. وبدا خبر نشرته الصحافة الرسمية اخيراً حول تغريم قيادي في المجلس المحلي لمحافظة صنعاء، ألف ريال 5 دولارات، بسبب تدخينه أثناء اجتماع رسمي، اشبه بنكته لدى البعض الذي تلقفه هازئاً من الغرامة وقانون منع التدخين. ويعتقد عبدالله 49سنة أن الخبر مجرد دعاية وتذكير بالقانون. وباستثناء المساجد، فإن من النادر التقيّد بحظر التدخين في وسائل المواصلات المشتركة والاماكن العامة والمؤسسات الرسمية. وثمة مؤسسات يُستهلك فيها التبغ والقات أيضاً. وسعى الرئيس اليمني، منذ سنوات، الى منع تعاطي القات داخل المرافق الحكومية وأثناء تأدية الخدمة، بالنسبة للعسكريين، بيد أن جهوده باءت بالفشل. وتشي"الممانعة"العامة في شأن التزام قواعد التدخين ومضغ القات، بطبيعة تقدير اليمنيين لحياة الانسان، فما زالت القدرية تغلب سلوك كثيرين منهم. ويبدو أن المعتقد الديني وحده، هو القادر على الحلول محل القانون وبرامج التثقيف الصحي، فكثيرون من المنتمين إلى جماعات دينية لا يدخنون، لا بل يدعون إلى الاقلاع عنه، لاعتقادهم بأنه حرام أولاً، ومضر بالصحة ثانياً. وفي المقابل، قد لا يغيظ مرشد أو مربٍ كونك تدخن، بقدر ما يغيظه أنك تدخن باليد اليمنى وتشرب الشاي باليسرى، فهو يعتبر هذا السلوك عملاً"شيطانياً". وقد تفاجأ بأن الحل هو في تبديل الأيدي فقط. ويتفاوت التزام المدرسين والمدرسات في شأن التوعية بأضرار التدخين، بين مدرسة واخرى. وتقول مي إن معلماتها يعتبرن التدخين حراماً، ويوضح خلدون وسامية أن مدرسيهم يعتبرون التدخين حراماً لأنه ضار بالصحة. لكن الصغار الثلاثة الذين يدرسون في مدارس مختلفة، يتفقون على ندرة حملات التوعية. وقلما نصح الصغار ذويهم في شأن الكف عن التدخين. والشائع أن بعض التلامذة المدخنين يفعلون ذلك خلسة، وبعض الذين يتزوجون أو يقدمون على خطوبة، يجدونها مناسبة للتدخين، فمعنى الزواج لا يزال يشير إلى اكتمال الرجولة.