لم تحترم إسرائيل يوماً شرعية الإنسان الفلسطيني ولا كيانه ولا حضارته ولم تكن دولة تراعي المواثيق والقوانين الدولية الإنسانية في تعاملها مع القضية الفلسطينية ولا مع واقع الصراع على مر السنوات والمراحل المختلفة له. ولم تكن إسرائيل دولة تسعى للعيش في سلام يضمن نمو شعوب المنطقة وتطورها السلمي. ولم تكن إلا كياناً يعتمد التمييز العنصري في تعاملاته السياسية والمدنية مع الفلسطينيين، فعملت خارج الشرعية الدولية وتنكرت لكل ما يصدر عنها من قرارات واتفاقات. ولم تكتفِ إسرائيل دولة الاحتلال والإجرام والاغتصاب والقتل بكل هذه الحقائق السياسية، وبوضع غزة والضفة في الاعتقال الانفرادي، وبسياسة الحصار وضرب البنى التحتية الفلسطينية بالصواريخ و المدفعية الثقيلة، بل أراد ساستها أن يحدثوا إيلاماً أكبر لسكان غزة هذه المرة، وكأنهم يعلنون مسؤوليتهم لما وصلت إلية الأمور في القطاع من انقسام وفقر وموت ودمار، ويريدون أكثر. إن قرار حكومة إسرائيل المصغرة اعتبار غزة كياناً معادياً هو قرار حرب، وقد كشف إسرائيل على حقيقتها فلم تعترف من قبل بأنها مارست القمع ضد الفلسطينيين المدنين، وبأنها استخدمت القتل والاحتلال لضرب وحدة الفلسطينيين وقوتهم، لكنها الآن تعترف علانية عبر قرارها هذا بأنها دوله مارست الإجرام السياسي المنظّم وترغب في زيادة ممارسته عبر سياسة اعتقال المناطق الفلسطينية والحصار والتجويع. إن إعلان إسرائيل غزة كياناً معادياً سيطلق يد جيشها لينفذ السياسة التي يراها مناسبة بالقطاع السجين بخلاف استباحة كل ما هو محرم ومنع الكهرباء والماء والوقود والمواد الأساسية اللازمة لأن يمارس سكانه حياتهم في شكل شبه معقول. إن هذا العداء لسكان غزة ليس جديداً ولا يحمل معه آليات جديدة، فقد اعتادوا عليها لكن الإجراءات هذه المرة تهدف أساساً الى تحطيم المساعي الرامية لإنجاح"اجتماع الخريف"المقبل المتوقع منه منح صلاحيات أكثر لسلطة الرئيس محمود عباس لإدارة أمور الدولة الفلسطينية في أراضيها، وهي الآن تشعر بأنها مجبرة على الجلوس الى طاولة الخريف والاعتراف بأنها السبب الرئيس في تردي الأوضاع السياسة والاقتصادية وحتى الاجتماعية في القطاع. ولا تريد الاعتراف بأنها وضعت المناطق الفلسطينية في المعتقل الجغرافي، علماً ان غزة أصبحت تحت الحصار الكامل والضفة داخل سور العزل العنصري. إن سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل عبر قرارها هذا، هي وأد المساعي الجارية تحضيراً لمؤتمر السلام ودعم الجبهات المعارضة لسياسة الرئيس عباس وإضعاف جبهة المعتدلين وبناة السلام . كما تسعى إسرائيل الى ضرب ما بدأ ته سلطة عباس من لملمة الوضع الداخلي الفلسطيني تحت إطار منظمة التحرير عبر اعتراف سكان غزة بأن ممارسات إسرائيل من العقاب الجماعي والحرمان والحصار لا تنفع معها إلا الصواريخ والعمليات والتفجيرات والمقاومة وهذا حقهم الطبيعي. إن صناعة السلام لا تتطلب من إسرائيل مثل هذه الإجراءات الانتقامية من السكان المدنين بهدف دفعهم الى مقارعة سلطة غزة والمقاومة بل العكس. وبالتالي سيزيد قرار الحكومة الإسرائيلية من حدة الانقسام السياسي الفلسطيني في قطاع غزة و يجسّد سياسة الفصل بين جناحي الوطن وهذا يتضح من خلال دعوة المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر إلى تخفيف إجراءات الجيش في الضفة الغربية ادعاء منه دعم سلطة الرئيس عباس إلا أن الحقيقة غير ذلك لان هذه الإجراءات تهدف الى تقليص سلطة عباس وزعزعتها بهدف إدامة حال التنافر السياسي مع حركة"حماس"الطرف الآخر للمسطرة السياسية والخروج عن شرعية الرئاسة الفلسطينية وإظهار ذلك للعالم، بأن لم يعد هناك طرف فلسطيني قوي تمكن صناعة السلام معه ورسم خطوط التعايش المستقبلي. إن الحقيقة التي يجب إن يدركها الجميع فلسطينيين وعرباً ساسة وسياسيين وهي إن قرار إسرائيل الحالي يقصد منه تخريب ما تبقى من الصف الفلسطيني ... إن ما تبقى للمهتمين بالسياسة معرفته هو أن إسرائيل هي التي تسببت في الانقسام والاختلاف الفلسطيني عبر إجراءاتها وسياستها المستمرة لإضعاف السلطة الشرعية وعبر سياسة التفريق التي اتبعتها وأصبحت تتمادى في ممارساتها السياسية القمعية والإجرائية لإيصال رسالة إلى أبناء الشعب الفلسطيني توحي لهم أن السلام مع إسرائيل لن يكون والمقاومة ضد إسرائيل لن تكون ولن تجدي نفعاً. وكما أوجدت سجناً سياسياً كبيراً للفلسطينيين في غزة، سيفتتح سجن آخر قريباً في الضفة، ويترك الفلسطينيون يعيشون تحت رحمة إسرائيل عشرات السنين من دون كيان سياسى واضح المعالم والسيادة. الدكتور هاني العقاد - بريد الكتروني