منذ عهد غير بعيد، لم يكن للتطورات المالية التي تحدث في أحد البلدان أثر يُذكر في البلدان الأخرى. أما اليوم فنحن نعيش عالماًمختلفاً كلياً، يتسم بتزايد التكامل الاقتصادي وتنامي العولمة المالية. فلم تعد مواجهة التحديات الاقتصادية أمراً تستطيع البلدان القيام به منفردة. ولحسن الحظ أنها غير مضطرة لذلك. وتظهر الاضطرابات التي شهدتها الأسواق المالية اخيراً بجلاء مدى انتشار الاخطار وكيف أن الإجراءات الجماعية هي الاستجابة المثلى لها. فهذه الأزمة نشأت نتيجة لأزمة السوق الأميركية للقروض المنخفضة الجودة وما لبثت آثارها أن انتقلت عبر الحدود بسرعة فائقة. وكانت للأزمة انعكاسات على الجميع ? من مُصِْدِري سندات الدين في الولاياتالمتحدة إلى البنوك في ألمانيا وبريطانيا، إلى المقترضين في أوروبا، انتهاء بالمصَدِّرين في آسيا وأفريقيا. علمتنا التجربة أن السياق المتعدد الأطراف هو الذي يحقق أكثر الاستجابات فعالية لمثل هذه الأزمات. وفي حال الاضطرابات الأخيرة، يشمل ذلك الطريقة التي نراقب بها السوق المالية الدولية ونخضعها للتنظيم. لكن المبدأ ذاته ينطبق على الطريقة التي نتناول بها التحديات، سواء طريقة تصحيحنا لاختلالات المدفوعات العالمية أو سعينا لمنع الأزمات الاقتصادية. فالأمر يتعلق بالكيفية التي نتعاون بها للحد من الفقر وإصلاح التجارة، وكيفية إدارتنا لشيخوخة السكان السريعة وتعاملنا مع تغير المناخ. وباستثناء صندوق النقد الدولي، لا يوجد سوى القليل من المؤسسات العالمية التي تستطيع مواجهة التحديات الاقتصادية والمالية المعاصرة عبر البلدان المختلفة. وإدراكاً من الصندوق لهذه الحقيقة، بدأ بإجراء إصلاحات داخلية لتعزيز مشروعيته وتوثيق صلته بتطورات القرن الحادي والعشرين. ويمثل هذا تطوراً إيجابياً، بحسب ما اتضح في الاجتماعات السنوية الأخيرة التي عقدها الصندوق والبنك الدولي في واشنطن خلال الأسبوع الماضي. فقد رحب ممثلو الأعضاء البالغ عددهم 185 بلداً، بكيفية تواؤم الصندوق مع متطلبات عالم اليوم المتغير. أولاً، بالنسبة للمشروعية، تقوم المؤسسة بإصلاح هيكل الحوكمة المطبق فيها. وهناك تقارب متزايد بين البلدان الأعضاء حول أهم العناصر في النظام الجديد لتحديد حصصها أو أسهمها في الصندوق، وتوافق في الآراء حول الحاجة إلى زيادة حصص الأسواق الصاعدة والبلدان النامية ككل.وهناك سبل عدة نسعى من خلالها لتوثيق صلة الصندوق باحتياجات بلداننا الأعضاء. فبدافع الحاجة إلى معالجة الاختلالات العالمية، شهد هذا العام أيضاً الاستكمال الناجح لأول مشاورات يعقدها الصندوق على أساس متعدد الأطراف، وهي منبر جديد لعقد مناقشات بين أعضاء المجتمع الدولي الذين يتشاركون الاهتمام بقضايا الاقتصاد الحيوية. وقد شارك في هذه المشاورات الأولى كل من الصينواليابان ومنطقة اليورو والمملكة العربية السعودية والولاياتالمتحدة الأميركية. وتتيح المشاورات المتعددة الأطراف للصندوق وأعضائه الاتفاق على الإجراءات اللازمة على صعيد السياسات، لمعالجة مواطن الضعف التي تؤثر في الأعضاء منفردين وعلى النظام المالي العالمي. وأبرزت أول مشاورات متعددة الأطراف، أن النجاح في إزالة الاختلالات العالمية في شكل منظم، مع الحفاظ على النمو العالمي، يتطلب اقتسام المسؤولية في عدد من المجالات: إعطاء دفع للادخار القومي في الولاياتالمتحدة، وإحراز مزيد من التقدم في الإصلاحات الداعمة للنمو في أوروبا، وإجراء مزيد من الإصلاحات الهيكلية وضبط أوضاع المالية العامة في اليابان، وإجراء إصلاحات لتقوية الطلب في آسيا الصاعدة، مع زيادة مرونة سعر الصرف في عدد من البلدان ذات الفوائض"وزيادة الإنفاق بما يتسق مع الطاقة الاستيعابية والاستقرار الاقتصادي الكلي في البلدان المنتجة للنفط. أما عن المستقبل، فلا يزال الصندوق قادراً على إتاحة منبر لمزيد من المناقشات والتعاون بين بلدانه الأعضاء في مجالات عدة، نظراً لعضويته التي تشمل كل أنحاء العالم والصلاحيات المفوضة إليه من بلدانه كافة. ومن هذه المجالات قضايا الاستقرار المالي. ويهدف برنامج الصندوق البحثي المكثف في هذا المجال إلى تعميق فهمه لطبيعة مواطن الضعف في النظام المالي العالمي ونطاقها، وآثارها على الاقتصاد الكلي، وانعكاساتها على استقرار التدفقات الرأسمالية إلى البلدان الصاعدة والنامية. وتنعكس هذه التغيرات في زيادة الطلب على المساعدة الفنية من الصندوق وتقويماته لقوة القطاعات المالية في البلدان المختلفة. ولا يزال الصندوق يعمل منذ فترة على تحسين مواضع التركيز في عمله المعني بالبلدان المنخفضة الدخل، من ضمنها تحسين توقعاته لتدفقات المعونة إلى هذه البلدان والتأكد من توافر الحيز المالي اللازم لها حتى تتوسع في برامجها الاجتماعية، لا سيما في مجالي الصحة والتعليم. وعزز مساعداته الفنية العالية القيمة، لتشمل افتتاح مركز ثالث للمساعدة الفنية في أفريقيا هذا العام، وهو يعمل أيضاً على تعميق التعاون مع البنك الدولي في المجالات المهمة لتشجيع زيادة النمو والحد من الفقر في البلدان المنخفضة الدخل. وفي منطقة الشرق الأوسط، التي تتضمن شريحتي البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل، يعمل الصندوق بنشاط مماثل في تقديم المساعدة الفنية. وفي هذا السياق، أنشأ في عام 2004 مركزاً إقليمياً للمساعدة الفنية مقره بيروت ليغطي عشرة بلدان في منطقة الشرق الأوسط. ومن خلال التعاون الوثيق مع المنظمات الإقليمية وغيرها من مقدمي المساعدة الفنية، يساعد المركز على تشجيع التنفيذ الفعال للمبادرات الاقتصادية في المنطقة. وأخيراً وليس آخراً، بلغ الصندوق مرحلة متقدمة للغاية في تصميم نموذج الدخل الجديد الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة، وفي التوصل إلى توافق في الآراء في شأنه. وبدأ أيضاً تنفيذ نظام الموازنة المتوسطة الأجل، وانتهى من وضع موازنة ستحقق خفضاً في النفقات الحقيقية بمقدار 6 في المئة على مدار السنوات الثلاث المقبلة. وهو يعمل الآن على التوصل إلى توافق في الآراء حول السياسات التي سيرتكز عليها الدخل والإنفاق في المستقبل. وقد شُرفت بالعمل مديراً عاماً للصندوق طوال الأعوام الثلاثة ونصف عام الماضية. والإصلاحات الجارية هي جزء من عملية تطوير مستمرة. وإني على يقين من أن خَلَفي، دومينيك ستراوس - كان، سيتمكن من إبقاء الصندوق على صلة وثيقة بتطورات الأعوام المقبلة. * المدير العام لصندوق النقد الدولي المنتهية ولايته.