استوقفني وأضحكني - من باب شر البلية ما يضحك - مقال السيناتور الأميركي جوزيف بايدن في هذه الصفحة يوم الجمعة الماضي حول اقتراح تقسيم العراق الذي تقدم به مع زميل له آخر إلى مجلس الشيوخ الأميركي، حيث تمت الموافقة عليه في قرار غير ملزم الشهر الماضي. ففي الوقت الذي كنت أظن أن أرى طرحاً قانونياً لقراء العربية من قبل المحامي السابق والرئيس الحالي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إلا إن مفاجأتي كانت غير متوقعة حين وقفت على كلام إعلامي أكثر ما يقال في حقه إنه مخادع، وأقل ما يقال فيه إنه خاوٍ قانونياً. ذلك أن خطاب الشيخ الأميركي الذي طلب من قراء العربية التمعن في خطته الخماسية النقاط قبل رفضها، إنما قدم تبريراً غير مقبول لخطة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، منطقة للشيعة وثانية للسنة وثالثة للأكراد، كما جاء في النقطة الأولى من مشروع السيناتور ذاته. ولكن لم يتحفنا السيناتور كيف أجاز لنفسه - وهو مشرع داخلي- أن يتدخل في شؤون دولة أخرى ذات سيادة؟ أليس هذا يتعارض مع نص المادة 2 7 من ميثاق الأممالمتحدة القاضي بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول؟ هل دولة العراق ولاية أميركية حتى يترك تقرير مصيرها لمجالس الشيوخ والصبيان الأميركيين؟ ثم أليس الهدف المعلن من هذه الخطة البايدنية هو تمكين القوات الأميركية من وضع جدول زمني لانسحابها؟ فلماذا تجرؤ يا سعادة السيناتور على الإعلان عن هذا الهدف في مجلس شيوخك، وتبدي لقراء العربية الجانب الآخر منه؟ أليس هذا نفاقاً سياسياً من الدرجة الأولى؟ ثم إذا جاز للسيد بايدن أن يزعم أن ذلك التقسيم جائز بنص الدستور العراقي كما جاء في كلمته، فهل يتذكر السيناتور الكريم من وضع هذا التقسيم الطائفي في الدستور؟ ألم يكن بول بريمر الحاكم الأميركي السابق هو من خط هذا الدستور بيده؟ أفلا يتذكر سعادته أن العراق كان دولة موحدة وليس دولة اتحادية فيديرالية قبل الغزو الأميركي؟ وإذا كان السيناتور الديموقراطي يزعم أن الشعب العراقي قد وافق على الدستور في استفتاء شعبي، فهلاَّ أفادنا سعادته من أشرف على ذلك التصويت؟ ألم ترفض إدارة رئيسه وجود إشراف دولي على نتائج الانتخابات العراقية والاستفتاء على الدستور، اللذين ثبت لاحقاً حقيقة تزوير نتائجهما؟ ثم ألم تقم حكومة بلاده بتغيير ديموغرافية العراق السكانية حين سمحت لأعداد هائلة من الإيرانيين بالنزوح إلى العراق فسمحت لهم بالمشاركة السياسية، ثم سلمتهم مقاليد الأمور في البلاد، الأمر الذي أشار إليه وزير الخارجية السعودي حينئذ بقوله"إن الولاياتالمتحدة قد سلمت العراق إلى إيران فعلياً"؟ أما الكرم الحاتمي للسيناتور بايدن، فقد تمثل في النقطة الثانية من خطته التي اقترح فيها إعطاء السنة العراقيين 20 في المئة من دخل النفط العراقي، وهو أمر مريب حقاً حيث ارتضى للسنة هذه النسبة الكريمة! أفلا أخبرنا السيناتور الجليل بدايةً، عن عائدات النفط العراقية منذ الاحتلال أين ذهبت؟ ولماذا لم يعترض الشيخ الحريص على سمعة بلاده حين سمحت إدارة رئيسه للشركات الأميركية باستثمار حقول النفط العراقي لمدد تتراوح بين 25 -40 عاماً، الأمر الذي أعربت عنه منظمة"بلات فورم"وقتها بأنه"تجريد العراق من ثروته الوطنية وخسارة قرابة 200 بليون دولار"، إضافةً إلى كونه عملاً"غير مشروع"بحسب قوانين الاحتلال الدولية كونه عبثاً بمقدرات البلاد المحتلة، وسرقةً لثرواتها الوطنية؟ أم أن مرشح الرئاسة السابق الذي انسحب من سباق الرئاسة لعام 1988، بعد فضيحة سرقة مقتبسات من خطاب زعيم العمال البريطاني نيل كينوك من دون الإشارة إليه، لا يرى بأساً في سرقة ثروات الآخرين؟ لماذا لم يقف السيناتور"المنصف"على منصته في مجلس الشيوخ ليشجب انتهاكات حكومته للقوانين الدولية حين استخدمت بلاده الأسلحة المحرمة دولياً كالقنابل العنقودية والانشطارية واليورانيوم المنضب، كما فعل حين وقف في شهر آذار مارس 2003، ليؤيد حرب بلاده ضد العراق لأن صدام حسين بزعمه قام بانتهاك قرارات الأممالمتحدة؟ أين هو من انتهاكات بلاده لقوانين الحرب التي تمثلت تارة في خرق اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة لسنة 1949، المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب وقصف المناطق المدنية على التوالي، وتارةً بخرق اتفاقية لاهاي للممتلكات الثقافية سنة 1954، حين تركت المتاحف العراقية عرضة للنهب بعد الغزو، وتارةً بتعذيب المواطنين العراقيين في سجن أبي غريب، بطريقة شملت التعذيب الجنسي وتسليط الكلاب على السجناء، وهو أمر يعبر عن مستوى الحضارة الأميركية في التعامل مع الشعوب الأخرى، وقيمة الإنسان غير الغربي عندهم؟ هل نكتفي بالقول إن مواقف الزعيم الديموقراطي عادت كما كانت دائماً عبر تاريخها الطويل في مجلسه الموقر تتأرجح كعقارب الساعة تارة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال؟ ولكن الأمر المثير للسخرية في مقال السيد بايدن هو زعمه في الفقرة الثالثة من مشروعه أن التعديل الذي تقدم به"يدعو إلى عدم تدخل جيران العراق في شؤونه الداخلية"! وهذا يثير سؤالاًً كنت أتمنى لو أجابنا عليه السيد الديلاويري: ما هو تعريف التدخل الأجنبي في نظره؟ هل المقصود هو منع تدخل جيران العراق وترك المجال فقط للسادة الأميركيين للعبث الكامل بسيادة العراق؟ إذا كان السيد بايدن يظن أنه بإطلالته الإعلامية المقروءة، قادر على إقناع الأمة العربية بالحاجة إلى تقسيم العراق كما استطاع أن يقنع زملاءه الشيوخ، فربما كان عليه أن يعلم أن قراء العربية أكثر ذكاءً مما يظن! ولكن، لا غرابة أن يأتي هذا الطرح من عقلية أميركية باتت تشكو من ضبابية الرؤية لخارطة الشرق الأوسط، بسبب أنها تنظر إليه من خلال منظارٍ صنع في إسرائيل. فالرؤية التي يطرحها السيناتور بايدن، تشبه تماماً عقلية إدارة الرئيس بوش التي تشكو من رؤية مقلوبة للأحداث. هذه الرؤية المقلوبة هي التي جعلت"رجل الحرب"في إسرائيل شارون في نظر الرئيس الأميركي"رجل سلام"، وهي ذاتها التي ترى"الفوضى الهلاكة"في العراق"فوضى خلاقة"، كما أنها هي الرؤية التي ترى تفسير الدماء في لبنان وفلسطين بأنها إرهاصات مخاض يبشر بولادة شرق أوسط جديد، بدت الآن سوداويته المعتمة، وهي الرؤية ذاتها التي تزعم أن القوات الأميركية تريد إخراج"الأجانب"من البلد بحسب زعمهم، معتبرين أنفسهم أصحاب دار وليسوا أجانب! ولكن وللحق، فقد أعجبي ترحيب السيناتور في مقاله بالرأي الآخر، حين قال"إنني أرحب بأي نقاش حول التعديل". خاصة أنه أكد هو وعدد من زملائه في مناسبات عدة، على أن العراق اليوم أكثر منه أمناً في وقت صدام. ومن هذا الباب أود أن أعرب لسعادة السيناتور عن رغبتي في لقائه لأبدي له مشورتي حول هذا التعديل، على أن يكون لقاؤنا وسط بغداد، خارج المنطقة الخضراء! في انتظار ردك أيها الفاضل بايدن! * حقوقي دولي