لا يمكن أي عاقل أن يدافع عن معتقل غوانتانامو. وأنا أحسب نفسي عاقلاً، غير أن رغبة عارمة تدفعني للتعبير عن إعجابي بهذا المعتقل. ولا ينبع هذا الإعجاب من استحسان لما يجري فيه من تعسف وتقييد للحرية. فأنا لا أعاني من لوثة سادية، على ما أعتقد، بل مرده الخلاصة التي ينتهي إليها المرء من عملية مقارنة بسيطة بين واقع الحال في المعتقل الأميركي وما هو عليه في معتقلات البلدان التي تحكمها سلطات لا تكف عن التنديد بمعتقل غوانتانامو بوصفه وصمة عار للإدارة الأميركية. "أية ديموقراطية هذه التي يريد الأميركان أن يجلبوها لنا؟ ديموقراطية أبو غريب وغوانتانامو؟"، يهتف مؤيدو تلك السلطات من كتاب وإعلاميين وصحافيين. هؤلاء لم يتحدثوا يوماً عن أحوال المعتقلات والمعتقلين هناك بالجملة والمفرق. أكثر البلدان التي تنتقد الأحوال في غوانتانامو هي تلك التي تقف في جبهة"الممانعة"للسياسة الأميركية. يمكن للمرء أن يتفهم أي انتقاد لمعتقل غوانتانامو. فهذا مكان تسلب فيه حرية المعتقلين. وأي سلب للحرية مدان. وينهض الكتاب والصحافيون الأميركيون في مقدمة المنددين بالمعتقل بل إنهم يطالبون بإغلاقه فوراً. غير أن هؤلاء إذ يفعلون ذلك فاستناداً إلى ضمير إنساني حي ينظر إلى الحرية بوصفها مبدأ عاماً لا يمكن التلاعب به وتفصيله على أهوائنا ونزواتنا القومية. إنهم ينددون بسلطات بلدانهم. تكفي إلإشارة إلى نعوم تشومسكي ومايكل مور وسيمون هيرش، على سبيل المثال لا الحصر. أما منتقدو غوانتانامو، من بلداننا، فإنهم ينتقدون غوانتانامو ليس لأنهم ضد القهر وسلب الحرية بل لأن غوانتانامو تقع تحت سلطة الولاياتالمتحدة الأميركية التي تعد، في أعينهم، شيطاناً أكبر. ولو كانت غوانتانامو في الصين أو روسيا أو بورما أو ليبيا أو سورية أو إيران لما تفوهوا بشيء. هم لا يتحدثون عن المعتقلات في بلدانهم، كما أنهم لم يتحدثوا عن حملات الإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات البعثية التي حكمت العراق عقوداً طويلة بحق الأكراد والشيعة. لم يتحدثوا عن الإعدامات الجماعية التي قامت بها إيران بعد الثورة الإسلامية بحق المعارضين وعمليات تصفية الناشطين السياسيين في الخارج. لم يتحدثوا عن حال الطوارئ السائد في بلدانهم منذ أمد لا يتذكره أحد. يورد هؤلاء أن التعذيب يمارس في معتقل غوانتانامو وأن هذا التعذيب يتم بأشكال مختلفة. وهم يعددون أشكال التعذيب الجاري هناك على هذا النحو: الاعتداء بالضرب على المعتقلين والتحقيق تحت التهديد بالقتل وتعريض المعتقلين للحرارة واحتجازهم لفترة طويلة وحرمانهم من الزيارات. والحال أن العديد من الذين كانوا معتقلين في غوانتانامو وأطلق سراحهم أدلوا بشهادات إلى وسائل الإعلام حول ظروف اعتقالهم. وليس من شك أن معتقل غوانتانامو ليس منتجعاً سياحياً ولا يؤخذ إليه المعتقلون للاستجمام والراحة، ولكن إذا شاءت الأقدار أن تأخذ أي واحد من هؤلاء المعتقلين الذين أطلق سراحهم إلى أحد المعتقلات في البلدان المنددة بغوانتانامو وبقي هناك بضعة أيام لربما اكتشف أن غوانتانامو كان حقاً منتجعاً للترفيه. والأرجح أن هذا هو السبب الذي يدفع بأكثر المعتقلين في غوانتانامو إلى رفض تسفيرهم إلى بلدانهم. ولأن المجال لا يسمح بالتحدث عن أحوال تلك المعتقلات جميعاً فإن التعرف إلى نموذج واحد من شأنه أن يعطي صورة عن الأحوال في مجموعها. أشار تقرير هرَّبته في العام 1999 مجموعة من السجناء السياسيين السابقين في سجون أحد بلدان منطقتنا تقريراً عن الوضع في السجن على النحو التالي نضع ... محل إسم السجن وإسم البلد الذي يضم السجن: "... سجن فريد من نوعه من حيث كونه مؤسسة عقابية في شكل معسكر اعتقال - وهو مثال حي على التخويف والرعب والتعذيب والقتل، فضلاً عن كونه مصدر إذلال نفسي ومعنوي وجسدي .في ... واجهنا أحداثاً وفظائع لا تصدق على مدى سبعة عشر عاماً، اعتباراً من بداية 1980 وحتى نهاية 1996". ... وبحسب المعلومات الواردة إلى منظمة العفو الدولية من سجناء سابقين، يوجد في سجن ... سبع باحات تضم في ما بينها نحو 40 إلى 50 مهجعاً و39 زنزانة أصغر حجماً تتراوح أبعادها بين متر?1,5 متر و3,5?3,8 متر. وجمعيها فوق الأرض باستثناء حوالى 16 زنزانة تحت الأرض تُستخدم لاحتجاز السجناء الذين يواجهون إجراءات تأديبية في الحبس الانفرادي. ولا توجد في أي من الزنازين تهوئة كافية، لكن المهاجع مزودة بنوافذ مغطاة بمشابك من الأسلاك الشائكة في السقف تسمح للحراس بوضع السجناء تحت المراقبة الدائمة. ويتفاوت العدد الإجمالي للسجناء السياسيين في سجن ... على مر السنين، لكن يُعتقد أن عدة آلاف مروا عبر سجن ... في مرحلة أو في أخرى خلال اعتقالهم. ويشير أحد السجناء السابقين إلى أن عدداً يصل إلى 20,000 سجين سياسي ربما مروا عبر سجن ... بين العامين 1980 و1990، وأن متوسط عدد السجناء المحتجزين هناك في أي وقت بعينه خلال تلك الفترة ربما بلغ نحو 6000 سجين. وحالياً يحتجز في سجن ... حوالى 600 سجين سياسي. أغلبيتهم من المواطنين ... المتهمين بإقامة صلات ب [أسماء أحزاب ممنوعة في ذاك البلد]أما الباقون فعرب [من غير أبناء ذاك البلد]، ومعظمهم من الفلسطينيين أو اللبنانيين". وعلى مدى سنوات عديدة، سجَّلت منظمة العفو الدولية نمطاً للتعذيب وسوء المعاملة يبدو أن سجن ... ينفرد به. وبحسب الأنباء التي تلقتها المنظمة الدولية، فإن"حفلات الاستقبال"في ... ليست إلا بداية لمحنة طويلة. وفيما يلي وصف"لحفلة استقبال"في ... وفق ما دونه معتقل سابق وسلمه إلى منظمة العفو الدولية. "وصلت الحافلة التي تقلنا إلى سجن ... حيث كانت الشرطة العسكرية بانتظارنا. وأنزلنا الحراس من الحافلة وهم يجلدوننا بوحشية حتى أُنهكت قوانا. فكوا قيود اليدين وعُصب العينين، ثم اقتادونا إلى باحة تشرف عليها مكاتب السجن، حيث تم تسجيل أسمائنا. وطوال ذلك كنا نتعرض للجلد من جميع الاتجاهات. ثم اقتادونا عبر باب حديدي إلى باحة تُعرف بباحة التعذيب. وفتشت الشرطة العسكرية ملابسنا. ووُضعنا واحداً تلو الآخر في"دولاب". وعندما انتهوا من ضربنا، أوقفونا في طابور واحد. وسرنا نحو السجن ونحن نمسك بملابس بعضنا بعضاً معصوبي الأعين. ووصلنا إلى الباحة الرابعة، وفُتح باب الزنزانة ودخلنا. وظللنا نتعرض للجلد من كل حدب وصوب إلى أن أُغلق باب الزنزانة. وكان الجميع في حالة يرثى لها، وأرجلهم تنزف ومغطاة بالجروح. وفي أوقات معينة من الفترة الممتدة بين 1980 و1996 بلغت قسوة المعاملة المستخدمة في ... مستويات لا تطاق. ويبدو أن السجانين حصلوا على إذن بفعل أي شيء لفئات معينة من السجناء، بما في ذلك قتلهم عمداً". وفيما يلي وصف نموذجي للتعذيب حسب ما ورد إلى منظمة العفو الدولية. "أثبت الجنود والرقيب المسؤول أنهم أصحاب أفكار مبتكرة جداً في وسائل إذلال النزلاء. وإلى جانب الاعتداء عليهم بالضرب، يلجأون أحياناً إلى وسائل تعذيب هزلية مؤلمة مثل إجبار السجين على أكل حشرة أو صرصار أو ذبابة كبديل من إجباره على لعق حذاء الحارس أو الرمل والغبار في الباحة"لتنظيفها". ومن وسائل التعذيب الأخرى إجبار سجينين اثنين على إمساك أحد النزلاء بيديه وقدميه وهزه عالياً في الهواء ثم قذفه حتى يقع على الأرض. وعندما رفض أحد السجناء أن يفعل ذلك تعرض للضرب المتواصل على رأسه حتى فقد صوابه تماماً . ومن الشائع أن يتعرض السجناء للإهانات والتهديد والجلد والركل واللكم والصفع ولإطفاء السجائر على أجسادهم وهم يتسلمون وجبات الطعام. ويخضع السجناء للمراقبة الدائمة"ويرابط الحراس ليلاً نهاراً على النوافذ الموجودة في سقف المهجع لمراقبة السجناء الذين يُحظر عليهم القيام بالأشياء اليومية المعتادة جداً مثل المشي في المهجع، والذهاب إلى المرحاض خلال الليل والتحدث مع الزملاء السجناء أو مع الحراس، والنظر إلى الحراس أو عبر النافذة أو الباب. كذلك مُنعت الصلاة اليومية والصوم- على الأقل حتى العام 1999 - كذلك كان حال المطالعة أو إعطاء دروس للزملاء السجناء. ولا يُسمح لأغلبية السجناء بزيارات عائلية. وفي الواقع لم يُبلَّغ العديد من عائلات السجناء السياسيين في ... بمكان وجود أقاربهم"ولم يعرف بعضهم بوجودهم إلا بعد عدة سنوات. تصل الأوضاع في سجن ... إلى الحدود اللاإنسانية المهينة. فالمهاجع قذرة ورطبة وباردة في الشتاء وحارة جداً في الصيف ومليئة بالصراصير وغيرها من الحشرات. ولا توجد فيها أسرة، ويُعطى كل سجين بساطاً رقيقاً وبطانيتين رثتين وقذرتين وملاءة. ويكون حيز النوم عادة ضيقاً جداً لأن المهاجع مكتظة. وأشارت بعض الشهادات إلى أنه في بعض الأحيان لم يتوفر حيز كاف للسجناء للاستلقاء على ظهورهم. توفي العديد من المعتقلين في الحجز، إما نتيجة التعذيب أو الأوضاع القاسية أو المرض الخطير. فمثلاً توفي عطية دياب، وهو فلسطيني عمره قرابة 31 عاماً، في سجن ... في شباط فبراير 2000. ويبدو أن سبب وفاته عدم توافر الرعاية الطبية له. وهو كان بحالة صحية سيئة عندما نُقل إلى سجن ... في 1996. وكان عطية دياب، وهو عضو في حركة فتح الفصيل الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها ياسر عرفات، قد قُبض عليه في 1989 بجنوب لبنان ونُقل إلى ... وسجن في عدة أماكن قبل أن ينقل إلى .... ولا تعرف منظمة العفو الدولية ما إذا كانت وُجهت إليه تهم أو جرت محاكمته، لكنه كان ضمن عشرات الفلسطينيين الذين اعتقلوا لأسباب سياسية في .... وتشكل عدة شهادات شاهداً على اللامبالاة المطلقة التي تنظر فيها إدارة السجن إلى حالات الوفاة في الحجز. وتزعم معظم الشهادات أن الحراس لم يستدعوا طبيباً قط للكشف على سجين يحتضر أو اشتد عليه المرض. وعوضاً عن ذلك، يأمرون النزلاء الآخرين باستدعائهم لتسلم الجثة عندما يفارق السجين الحياة. وعندما يُتوفى سجين نتيجة التعذيب، لا تجري سلطات السجن أي تحقيق أو تشريح للجثة. وعوضاً عن ذلك تسعى الإدارة إلى التستر على السبب الحقيقي للوفاة. والواقع أن ضحايا التعذيب في ...، نادراً ما يلجأون إلى القضاء للتعويض عما تعرضوا له من تعذيب أثناء التوقيف القضائي، وذلك للقناعة التي تكونت لدى المواطن بأن التعذيب في الفروع القضائية هو أمر بديهي يمارس بحق معظم الموقوفين القضائيين، ولضعف ثقافة المواطن ... بحقوقه وبما يكفله له القانون من هذه الحقوق، فضلا عن ضعف الثقة بالقضاء. أما ضحايا التعذيب في الفروع الأمنية، فيحجمون عن الشكوى بدافع الخوف من الإجراءات الانتقامية التي قد يتعرضون لها إذا ما حاولوا أن يتظلموا مما ارتكب بحقهم من قبل الأجهزة الأمنية، فضلا عن المادة الرقم ... التي تحمي قطاعا واسعا من العاملين في الدائرة الأمنية من أية مساءلة حول ما يرتكبون من جرائم تعذيب وسواها. وإلى جانب التعذيب الجسدي الرهيب هناك التعذيب النفسي من الحبس الانفرادي لمدد طويلة، والمنع من الاتصال بالعالم الخارجي والاستعانة بمحام، حيث يبقى المعتقل شهورا وأحيانا سنوات بغير أن تعلم عائلته عنه أي شيء وبغير أن تتمكن من الاطمئنان عليه. يضاف إلى ذلك رداءة وقلة الطعام، والحجز في أماكن تفتقر إلى أدنى معايير الصحة بعيداً عن الضوء والهواء النقي كالأقبية والزنازين، وإسماعه بصورة شبه دائمة أصوات التعذيب الشديد الى جانب توجيه الإهانات والشتائم المبتذلة والتهديد المستمر بتعذيب أشد أو بالتعرض بالتعذيب والإهانة لأحد أفراد العائلة- وبشكل خاص للزوجة أو الأخت أو الابنة". في غوانتانامو نعرف عدد المعتقلين وأسماءهم، ونعرف أن لهم محامين يدافعون عنهم وتجري محاكمتهم وإطلاق سراحهم تباعاً. أما في معتقلات بلدان الصمود فلا أحد يعرف عدد المعتقلين وأسماؤهم ولا يزورهم الأهل وليس لهم محامون وفي حالات كثيرة يستمر اعتقالهم عقوداً طويلة وهناك من كانت رحلتهم من السجن إلى القبر مباشرة. غوانتانامو حالة عابرة، استثنائية، مؤقتة في الحياة الأميركية فرضتها أحداث غير عادية، أما معتقلات بلدان الممانعة فصامدة ودائمة وأبدية. * كاتب كردي.