تستحوذّ فكرة الحرصِ على إبقاء معدلات نمو اقتصادي عالية، على دول العالم، وينتابها قلقٌ من الأمواجِ المدّية لأزمة الرهن العقاري الأميركي، العالية المخاطر، حدثت في آب أغسطس الماضي، وتستمر تداعياتها في إحداث مخاطر في بلدان ذات ثقلٍ اقتصادي، منها المناطق الجيوسياسية أو اقتصادية، أو الدول ذات الاقتصادات الكبرى. وتتلاقى مؤسساتٌ عالمية، في مقدمها صندوق النقد والمصارف المركزية، في أوروبا وأميركا واليابان، حول هذا القلق، فالأزمة مثلُ طائرةٍ خارقةٍ لجدار الصوت، يترك ارتجاجها ارتعاشاتٍ تتوسّع في شعاع طويل واهتزازات في أكثر من مكان. القلق يتجاوز نتائج أزمة الرهن العقاري في مواقعها. إنه يتجّه نحو النشاط الاقتصادي العالمي الإجمالي، ويركز على احتمال توفير فرص العمل أو عدمه، لأن فرص العمل هي أساس حوافز معدلات النمو. وباستثناء المغامرين، الذين يدخلون أسواق المال والمعادن والمواد الأولية والنفط، لتحقيق مكاسب وجني أرباح سريعة، لا يبدو في أفق القرية الكونية ما يُشيرُ إلى قدرة على تحقيق معدلات نمو متوقّعة، لأنها نتيجة لدعم القدرة الشرائية للأسر، وحدها تُحرّك مؤشر الاستهلاك في الأسواق الكبرى. والقدرة الشرائية هذه، تتحسّن في موقعين، زيادة الأجور أو توفير فرص عمل جديدة تمكن الأسواق من احتضان الوافدين الجدد إليها. لذا أفرزت أزمة الرهن العقاري الأميركي، مؤشرات ذات ضوابط حمراء. تسريح العاملين في قطاع العقار، وانعكاس أزمته على المدخرات، تلعبُ دوراً في تقلّص معدلات نمو في أكثر من بلد. ورغم احتواء أميركا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، صدماتٍ على صعيد مصارف تجارية كبرى، بتدخل من البنوك المركزية، فإن ثقة المدخرين فقدت نقاطًا في مؤشر الأمان الادخاري. وإلى الادخارات، فقدت الأسواق مئات الآلاف من فرص العمل، بطريقة غير مباشرة، هي عجزت عن توفير أمكنة جديدة، لا سيّما في الولاياتالمتحدة. وإذا استطاعت منطقة اليورو أن تصدّ ارتدادات الأزمة الأميركية، وتقي ذاتها من ارتفاع أسعار النفط بعملة أوروبية قويّة، فإنها لن تنأى لأمدٍ طويل، نظراً إلى امتداد بساط التضخم فوق حقل الاستهلاك، ومثلها أكبر التكتلات الاقتصادية في القرية الكونية. يعكس التضخم ارتفاع أسعار الاستهلاك، أي بطريقة عكسية، انخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين. ويشكّل إلى جانب فقدان الوظائف وخسارة المدخرات، عنصراً ثالثاً لا يتوافق مع تفعيل معدلات النمو. هو يدخل في معدلات النمو الاسمية، ليحسم منها بهدف بلوغ معدلات النمو الفعلية. هذه العوامل كلّها تؤدي إلى تآكل الأجور، بمعنى أن الأجر الذي كان يشتري سلّةً من السلع في بداية السنة، صار عاجزاً عن توفير السلّة ذاتها بعد مرور عشرة شهور منها، والفارق يشكّل هامش التضخم الذي يخضع لعملية تثقيل حسابية. لكن الخوف من التضخم لا ينحصر داخل بلد واحد. إنّه معولم، ينتقل بواسطة التبادل التجاري. وفي هذا المجال تبقى الولاياتالمتحدة القطب الأساس. إليها يُنظر كسوقٍ استهلاكي، الأضخم في العالم. لذا ارتبطت مؤشراتٌ اقتصادية كثيرة بمدى قدرة هذه الدولة على الإنفاق في المستقبل. وارتسمت في الفترة السابقة دلائل على التلازم بين مؤشراتها وأسعار الخامات العالمية، فإذا صدر مؤشرٌ إيجابي ارتفع سعر النفط، والعكسُ يخفضّه في لحظات. ويراهن كثيرون على أن سعر النفط سينخفض، رغم تقلص مخزون هذه الدولة، لأنها لن تكون قادرةً على استهلاك كميات مماثلة لما استهلكته في سنواتٍ سابقة. ويُرعبُ مؤشر الإنفاق على النفط والمحروقات، المؤسسات المعنية برصد معدل النمو العالمي. هذا المعدّل يُرجّحه حاليًا، إفراط نمو معدلات الاقتصاد في الدول الناشئة، تتقدمها الصين والهند وغيرهما من نمور آسيا وروسيا. فمعدلات نموها القياسية تعوّض التراجع في معدلات نمو الدول الاقتصادية الغربية الكبرى، وتقفز بالمستوى القياس إلى ما بين أربعة و خمسة في المئة سنوياً، مقابل 11 في المئة للصين، و9 في المئة للهند، ونزولاً في دول آسيا الناشئة حتى روسيا 6 في المئة. ولم تُبنَ هذه المعدلات، على أساس النشاط الاقتصادي فقط، بل على اساس الاستهلاك، وهو لا ينحصر بالأسواق المحليّة فقط، بل بالأسواق الخارجية في شكلٍ مكثف. ففي الصين والهند مئات ملايين الفقراء ومثلهم من ذوي الدخل المحدود جدًا. هؤلاء لا يملكون كتلةً مالية للإنفاق، فالإنتاج السلعي الصيني ومثله الهندي وغيره، يُستهلك في دول العالم الصناعي، تتقدمه أميركا بنسبة تتجاوز خمسين في المئة. وإذا تراجعت واردات أميركا من تلك الدول، هبط نموها، ولا يعود يشكّل المعادلة الفارقة في تكوين معدّل النمو العالمي، فينخفض الأخير عما كان أو عما هو مقدّر له أن يكون، ولسنوات آتية. يعتبرُ القياس العالمي، مرآةً لما سيكون الوضعُ في الدول غير الصناعية، سواء النفطية أو غير النفطية. هي دولٌ تربطُ عملتها بالدولار الأميركي طمعًا في استقرارٍ نسبي للأسعار. لكن مع تهاوي قيمة الدولار بات التضخم ينهشها، ويستحيل على مصارفها المركزية، أن تتخذ قرارات فك الارتباط. وتواجه البلدان"الدولرة" سبيلين لمساعدة مواطنيها غير الأثرياء، الذين يشكلون الشريحة الكبرى للاستهلاك. أن تقوّم الأجور وتصحّحها بمستوى ما خسرت من قيمتها الشرائية، أو تدعم السلع الأساسية غير الكمالية. في الحالتين النتيجة لن تكون في مستوى طموح الاقتصاد، لأن تصحيح الخلل في الأجور يقود إلى سلسلة مترابطة من التصحيحات بلوغًا لزيادة تكاليف السلع والخدمات، أو تحميل موازنات الدول أعباء غير إنتاجية من طريق الدعم. لكن الخطر، يبرز على صعيد مدخرات الزبائن لدى المصارف بالعملات الأجنبية، لا سيّما الدولار. هذه الودائع خسرت بين بداية الألفية ونهاية 2005 نحو 25 في المئة من قيمتها، وخسرت من بداية 2006 لغاية الآن نحو 15 في المئة، وهي ثروة تتآكل، سواء في الداخل أو الخارج، وعلى صعيد كل الأوطان. يكفي أن تكون أموال دول النفط العربية، في الخارج، أكثر من 15 تريليون دولار، ليقاس حجم الخسارة بتريليونات الدولار. ويكفي لوطنِ مثل لبنان يكبّله الجمود الاقتصادي، أن يخسر قيمة مدخرات أبنائه بهذه المستويات العالية، وتُقاس الخسارة بمقارنة العملة الأوروبية إلى العملة الأميركية. فهل يلجأ العالم إلى نظام اقتصادي غير مصاب بفقدان المناعة، وتتحوّل الدول إلى فك ارتباطها بالعملة الأميركية؟