تراجع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل اليورو عام 2002 بنسبة خمسة في المئة، ثم عاد وفقد 16 في المئة من قيمته العام الماضي. وسجل الدولار أدنى مستوى له مقابل اليورو في كانون الثاني يناير الماضي عندما وصل إلى 1.295 قبل أن يستقر اخيراً عند سعر راوح بين 1.20 و1.26 دولار لليورو .ويعتبر سعر صرف الدولار مقابل اليورو الآن أضعف مما كان عليه عند بدء التداول بالعملة الأوروبية الموحدة في كانون الثاني عام 1999، كما انه أقل بنسبة 35 في المئة من أعلى مستوى وصلت إليه العملة الأميركية عام 2000. ويعود تراجع الدولار إلى عوامل عدة منها انخفاض أسعار الفائدة على الدولار وتفاقم العجز في الحساب الجاري للولايات المتحدة والعجز الكبير في الموازنة الاميركية، إضافة إلى تصميم الإدارة الأميركية على إضعاف الدولار لحفز الصادرات وإعطاء دفعة للاقتصاد الأميركي الذي لا يزال يشهد معدلات نمو بطيئة في أعداد الذين يتم توظيفهم .كما يرغب الرئيس جورج بوش في تجنب مصير والده الذي نجح في إخراج الجيش العراقي من الكويت عام 1991، ولكنه خسر الانتخابات الرئاسية عام 1992 بسبب ضعف الاقتصاد الأميركي . تعتبر أوروبا أكبر شريك تجاري لدول المنطقة، إذ شكلت الواردات من 15 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي نحو 26 في المئة من إجمالي واردات دول الخليج والدول العربية في غرب آسيا العام الماضي، في حين كانت الواردات من الولاياتالمتحدة واليابان أقل من ذلك بكثير. واتبعت معظم الدول العربية نظم اسعار صرف ثابتة بربط عملاتها بالدولار الأميركي مثل دول الخليج الستة والأردن، في حين ربطت بعضها عملاتها بسلة من العملات الدولية يسودها اليورو كما في تونس والمغرب، واختارت مصر تعويم سعر صرف الجنيه المصري منذ 29 كانون الثاني 2003، وأدى تراجع سعر صرف الدولار مقابل اليورو بنسبة 35 في المئة في العامين الماضيين إلى ارتفاع أسعار الواردات من أوروبا واليابان في أسواق معظم الدول العربية التي ترتبط عملاتها بالدولار، ومنها أسعار السيارات والإلكترونيات والآلات والمعدات والأجهزة المعمرة والأثاث والألبسة والدواء وغيرها .وسيظهر هذا جلياً في معدلات التضخم لدول المنطقة السنة الجارية إذ تشكل المستوردات أكثر من نصف الإنفاق الوطني لهذه الدول . إلا أن ما طرأ على ارتفاع الأسعار حتى الآن تم بشكل تدرجي، ويتوقع أن يسجل مؤشر غلاء المعيشة لدول المنطقة زيادة بين واحد في المئة واثنين في المئة عما كان عليه في نهاية عام 2003. وسيؤدي ارتفاع معدل التضخم إلى تراجع مستويات المعيشة وتقليص القدرة الشرائية، خصوصاً للموظفين الذين يعيشون على مرتبات وأجور ثابتة، وسيضع المزيد من الضغوط على الحكومات لرفع الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام .كما ستضطر مؤسسات القطاع الخاص إلى زيادة مرتبات موظفيها لتعويضهم عن ارتفاع معدلات التضخم. وسيصبح سعر الفائدة الذي يتقاضاه المودعون في المصارف الان، بين 1.5 في المئة واثنين في المئة أقل من معدل التضخم .اي أن السعر الحقيقي للفائدة على الودائع سيصبح سالباً، ما سيؤدي إلى تراجع القيمة الحقيقية للمدخرات حتى بعد إضافة الفائدة المحققة على هذه الودائع . ويتوقع أن يؤدي ارتفاع أسعار المنتجات الأوروبية واليابانية في الاسواق العربية إلى تحول الناس تدريجاً الى المنتجات الآسيوية المقومة بالدولار، والأميركية التي لم ترتفع أسعارها بنسبة ارتفاع أسعار البضائع الأوروبية. الا أن تغير أنماط الاستهلاك يأخذ وقتاً، وقد لا يتحقق إلا إذا استمر اليورو في الارتفاع لفترة زمنية أطول. عندها قد يعيد المستهلكون موازنة نفقاتهم لصالح المنتجات غير الأوروبية. يُشار الى أن ارتفاع أسعار المنتجات الأوروبية في الأسواق المحلية قد يؤدي إلى زيادة أسعار سلع ومنتجات كثيرة اخرى، إذ سيحاول كل منتج للسلع والخدمات أن يعوّض عن ارتفاع أسعار البضائع الأوروبية التي يشتريها برفع أسعاره، وهذا ما يسمى بحمى ارتفاع الأسعار . وبما أن صادرات دول المنطقة الرئيسية مثل النفط والغاز والبتروكيماويات والفوسفات والبوتاس والأدوية والقطن والمواد الكيمياوية وغيرها من منتجات استهلاكية مقومة معظمها بالدولار أو بالعملات العربية المرتبطة بالدولار، فإن تراجع سعر صرف الدولار أدى إلى زيادة القدرة التنافسية لمنتجات دول المنطقة في الأسواق اليابانية والأوروبية .ويلاحظ أن الصادرات العربية إلى دول الاتحاد الأوروبي واليابان سجلت ارتفاعاً العام الماضي. وكان لتراجع سعر صرف الدولار مقابل اليورو والعملات الرئيسية الأخرى تأثيره في الخريطة السياحية لدول المنطقة .وقرر كثير من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي والعرب المقيمين في هذه الدول تغيير وجهتهم السياحية من أوروبا إلى دول المنطقة مثل الأردن ولبنان ومصر ودبي، بعدما أصبحت السياحة في أوروبا أكثر كلفة نتيجة ارتفاع سعر اليورو. ويتوقع أن يستمر هذا التوجه خصوصاً بعد القيود التي فرضتها واشنطن بسبب أحداث 11 أيلول سبتمبر على الزوار العرب إلى الولاياتالمتحدة . ولا شك أن تراجع سعر صرف الدولار قلّص القدرة الشرائية لدخل دول المنطقة من النفط المقوم بالدولار، وشجّع الدول الأعضاء في منظمة"اوبك"للحفاط على أسعار نفط مرتفعة لتعويض الخسارة التي تكبدتها بسبب ارتفاع أسعار وارداتها التي تأتي معظمها من أوروبا واليابان. ويلاحظ أن اجمالي دخل دول المنطقة من النفط العام الماضي مقوماً باليورو لم يكن أعلى مما كان عليه عامي 2002 و2003. وفي عام 2002، ارتفع سعر"سلة اوبك"5.4 في المئة بينما تراجع سعر صرف الدولار مقابل اليورو نحو خمسة في المئة. كذلك ارتفع سعر"سلة اوبك"العام الماضي نحو 15.5 في المئة مقارنة مع تراجع سعر صرف الدولار مقابل اليورو بنسبة 16.3 في المئة. وتحاول دول"اوبك"الحفاظ على معدلات اسعار أعلى من السعر المستهدف 22 - 28 دولاراً للبرميل للحفاظ على القدرة الشرائية لدخل هذه الدول من صادراتها النفطية . وأدى تراجع سعر صرف عملات دول المنطقة مقابل الين واليورو والعملات الأوروبية الأخرى إلى ثبات سعر صرف العملات العربية مقابل الدولار. وسيكون لزيادة القدرة التنافسية للسلع والخدمات التي تصدّرها المنطقة إلى أوروبا تأثير إيجابي في موازين المدفوعات لدول المنطقة، وفي زيادة الاحتياط لدى المصارف المركزية العربية. لذا يمكن القول ان ما حدث من تراجع في سعر صرف الدولار يصب في مصلحة العملات العربية المرتبطة به، ويعزز من ثبات هذه العملات أمام العملة الأميركية ويحفز على زيادة تدفق رؤوس الأموال إلى دول المنطقة ويقلص من إشاعات خفض سعر العملة التي تظهر بين الحين والآخر ولم يعد لها ما يبررها الآن . وتشير التوقعات الى ان اسعار صرف الدولار ستبقى قريبة من معدلاتها الحالية معظم ما تبقى من السنة الجارية، على أن تعود العملة الأميركية للارتفاع مجدداً في نهاية السنة لتعكس نمواً اقتصادياً قوياً في الولاياتالمتحدة وعودة أسعار الفائدة على الدولار للارتفاع التدرجي والبطيء .وإذا تحقق هذا السيناريو سيعتبر ما طرأ من ارتفاع على مستويات التضخم في دول المنطقة بسبب ضعف سعر صرف العملات المحلية مقابل اليورو حدثاً غير متكرر، ولن يظهر تأثيره مجدداً في أرقام معدلات التضخم السنة المقبلة .وعلى رغم ارتفاع سعر صرف اليورو، إلا انه لا يزال دون مستوى 1.17 دولار الذي كان عليه عند بدء تداوله عام 1999. وعندها لم يقل أحد ان اليورو عملة قوية، بل على العكس تم وصف العملة الأوروبية الموحدة وقتها بأنها ضعيفة كونها عملة 15 دولة أوروبية تتبع سياسات مالية ونقدية ليست بالضرورة متجانسة . * الرئيس التنفيذي جوردانفست.