دراجة نارية تعبر المدينة من طرف الى آخر توقظ في طريقها النائمين بسبب ضجيجها المزعج. سنوياً تباع مئات آلاف السدادات الأذنية للتخفيف من وقع الضجيج على أصحابها. وسنوياً تكلف إجراءات العزل ضد الضجيج بلايين الدولارات في الدول المتقدمة. وسنوياً يكلّف الطَرش المهني الناتج من الضجيج البلايين أيضاً لعلاجه. ويقول خبراء من الأممالمتحدة ان أكثر من 200 ألف شخص ينتقلون سنوياً الى العالم الآخر بسبب الضجيج الذي يعتبر أيضاً سبباً للموت في 3 في المئة من أمراض القلب القاتلة في أوروبا. الضجيج أصبح جزءاً من حياة الإنسان اليومية، بسبب تقلص مساحات الهدوء والسكينة، وتعتبر الأذن من أكثر الأعضاء تضرراً به. فالمعروف أن الأذن تتألف من ثلاثة أقسام: الأذن الخارجية، والأذن الوسطى، والأذن الداخلية. الوسطى تحتوي على عظيمات مهمتها التخفيف من وقع الأصوات الصاخبة العالية التواتر، فعند التعرض لمثل هذه الأصوات تقوم العضلات السمعية بالتقلص فتثبت العظيمات المذكورة للحد من آثار الضجيج على الأذن الداخلية. إن الضجيج المستمر يسبب تعباً وإنهاكاً للعضلات السمعية فلا تعود تستطيع القيام بعملها لدفع الأضرار التي يخلفها على الخلايا الشعرية الدقيقة التي تسبح في قوقعة الأذن الداخلية، وهذا الأمر يقود الى نقص السمع على المدى القصير أو البعيد. وفي شكل عام يمكن القول إن قوة الصوت دون 80 ديسيبل وحدة قياس الصوت لا تلحق بالأذن أي ضرر، ولكن متى تجاوزت ال90 ديسيبل، فإن خللاً موقتاً يمكن أن يحدث في السمع، وإذا استمر وقع الصوت العالي على الأذن فإن النهاية الحتمية ستكون الإصابة بالطرش الدائم. لكن هناك حالات تلحق الضرر بالسمع حتى ولو كانت قوة الصوت ضعيفة، وهذا الأمر يمكن حدوثه عند استعمال أجهزة"ووكمان"وپ"آي بود"، فالتنبيه المتواصل والمتكرر لحاسة السمع من جانب هذه الأجهزة يلحق ضربات موجعة بها، إضافة الى أنه يفسح المجال لتخدير حواس أخرى، ولهذا نرى أن مدمني تلك الأجهزة غالباً ما يتعرضون لهجمات النوم المفاجئة، كما أنهم يصابون بنقص في ردود الفعل في مواجهة الحوادث الطارئة. عدا هذا، فإن معظم المغرمين بسماع الموسيقى القوية يعاني تقلبات عاطفية وتغيرات بنيوية مرضية وتصرفات عدوانية. والضجيج لا يؤثر في الأذن وحدها، بل في الجسم كله من خلال إحداثه سلسلة من التفاعلات الفيزيولوجية الطارئة التي تجعل صاحبها في حال يرثى لها. فكل ضجة، مهما كان نوعها ومهما كان أصلها، تعتبر بمثابة عدوان غادر على الجسم. إن الضجيج يجعل الدماغ في حالة استنفار مستمر، إذا صح التعبير، ما يقود الى الإصابة بالتوتر الذي يتظاهر بعوارض وعلامات شتى، مثل الصداع والقلق واضطراب النوم وحب الجدل والعجز الجنسي واللامبالاة، إضافة الى التقلبات المزاجية والعاطفية. وهناك دراسات أشارت الى وجود رابط ما بين الضجيج والاضطرابات النفسية، كما أن هناك علاقة واضحة بين الضجيج والعدوانية، فكلما كانت قوة الضجيج عالية، كانت العدوانية أكثر بروزاً. وتشير الدراسات الى أن سكان المدن الكبرى هم أكثر عرضة للتوترات العصبية من سكان الأرياف. والضجيج يفتح الباب على مصراعيه أمام الاضطرابات القلبية الوعائية وارتفاع ضغط الدم. ففي دراسة أنجزت على الكبار والصغار القاطنين في محيط مطار ميونيخ، اتضح أن الضجيج الناجم عن حركة الطائرات في المطار يجعلهم يعانون زيادة في مستوى هورمون الغضب - الأدرينالين، المسؤول عن زيادة ضربات القلب وارتفاع الضغط الشرياني. والتعرض المديد للضجيج يدفع عاجلاً أو آجلاً الى زيادة الإصابة بالأزمات القلبية. ويعتبر الضجيج من الأسباب المحرضة على الاضطرابات الهضمية، وأهمها الغثيان، ونقص إفراز اللعاب وعسر الهضم، وبعض الاضطرابات المعوية. ويمكن الضجيج أن يؤثر سلباً في إنجاز الأعمال، من خلال توليده ظروفاً ضاغطة تؤثر في الانتباه والقدرة على التركيز والتحكم والقدرات الإدراكية الأخرى. وحتى الأطفال لا يسلمون من شر الضجيج، وفي هذا الشأن أفادت دراسة حديثة أجريت في كل من بريطانيا وهولندا وإسبانيا أن الضجيج، بكل أنواعه، يضعف ملكة القراءة وتنمية الذاكرة لدى الأطفال. فقد شملت الدراسة 89 مدرسة ابتدائية تقع قرب مطارات كبرى، وجاءت نتائجها لتوضح أن الضوضاء فوق المعدل بخمسة ديسيبلات، أعاقت تعلم القراءة عند التلاميذ الأطفال لمدة شهر أو شهرين. وبالنسبة الى الأطفال أيضاً، خلصت دراسة أوروبية أخرى الى أن الأطفال الذين تقع منازلهم قرب مصادر الضوضاء المعروفة كالمطارات وخطوط السكك الحديد والشوارع المزدحمة في المدن الكبرى، هم أكثر عرضة من سواهم للإعاقات الدماغية وبالتالي لضعف القدرة على الكلام ولصعوبات تتعلق بالنطق، إضافة الى تراجع في حاسة السمع. وفي هذا الإطار توصلت دراسة أجراها باحثون من جامعة كاليفورنيا الى أن الضجيج في المنازل، قد يؤثر سلباً في نمو الدماغ وتطوره عند المواليد الجدد، ويحدث تدهوراً في الوظائف العقلية. كما أوضحت الدراسة أن الضجيج الدائم في المنزل الذي يعيش فيه الأطفال الرضع يضعف من قدرتهم على تمييز الأصوات، الأمر الذي يعرضهم لمشاكل مستقبلية عند تعلّم اللغة. وفي المختصر أن الضجيج لا يؤثر في الكبار فقط بل في الصغار أيضاً في مختلف شرائحهم العمرية، والضجيج لا يؤثر في الأذن وحسب، بل في الجسم كله، من هنا ضرورة إعلان الحرب عليه لتفادي نتائجه الضارة. وكلما كانت الحرب باكرة تمكنّا من تفادي أخطاره على صحتنا وصحة أطفالنا خصوصاً.