ما هو الفارق الأساس بين عالمي الفيزياء والرياضيات؟ الفارق بينهما هو أن الفيزيائيين يتعين عليهم أن يتقيدوا بمبادئ منطقية معينة، اذا خرقوها فإنهم سينقلوننا الى عالم المعجزات، في حين أن معادلات الرياضيين لا تراعي، في الأعم الأغلب، ضوابط الفيزياء. وهذا يضعنا أمام وجهات نظر مختلفة اختلافاً كبيراً في شأن فهمنا علم الكونيات وتعاملنا معه. هناك أشياء تتعذر على الهضم في دنيا الفيزياء الحديثة. انها تتحدى المنطق والفطرة السليمة، وتستهين بهما، فبعض علماء الفيزياء يطلب منا أن نتخلى عن مبدأ السببية، ونؤمن باللامعقول. فما هو وجه الخلل في الصورة. يتساءل توم فان فلاندرن، ويقول:"ان الجواب على ذلك هو أن الفيزياء تخلت عن مبادئها. لقد ربطت نفسها كثيراً بالرياضيات، التي هي ليست متقيدة بمثل هذه المبادئ. صحيح ان الرياضيات أداة مهمة جداً في تفسير الكون، بيد أن سرّ قوة الفيزياء على مدى التأريخ يكمن في الانضباط الذي تفرضه على الرياضيات من خلال الاحتكام الى الطبيعة مباشرة. ونسيانُ ذلك يُضرّ بالفيزياء". يحيلنا هذا الى مبدأ جوهري، هو مبدأ السببية. ومبدأ السببية يقول:"لكل سبب نتيجة"، أو"لكل علة معلول"، أو بعبارة أخرى،"ان كل نتيجة لها عنصر شرطي، أو سبب مرتبط بها"، أما لماذا ينطوي كل معلول على علة، فذلك لأن"السبب"هو ما يجعل النتيجة تحدث، فلو حصل تغير ما في الكون أي نتيجة، بغير سبب يجعله يحدث، فأن ذلك يوازي السحر، أو المعجز، أو القوة الخارقة للطبيعة. لكننا نجد حتى ارادة القوة الخارقة لا تستطيع اجتراح معلول = نتيجة من دون وجود وسائل للتوصل الى ذلك."الوسائل"هي السبب، وهي تنطوي إما على قوة أو طاقة بصيغة ما. إن المبدأ القائل"لا شيء يُجترح من العدم"، هو تعبير آخر عن مفهوم السببية، لأن اجتراحاً كهذا - من العدم - سيقدم لنا معلولاً بغير علة، أو نتيجة بغير سبب. وهذه حالة لها أهمية قصوى، لأن علم الكونيات المسلّم به الآن، يتبنى نظرية"الانفجار الكبير"، التي تستند الى سيناريو اجتراح الشيء من لا شيء، أي اجتراح المادة، والفضاء والزمن، في الكون برمته من لا شيء، كخطوة أولى. لكن ينبغي القول ان اجتراح شيء من لا شيء محظور في الفيزياء، لأنه يتطلب معجزة، فكل شيء موجود جاء من شيء وجد قبله، سواء من طريق النمو، أو التجزئة، أو تغير الشكل. إن"المادة"وپ"الطاقة"يمكن اعتبارهما صيغتين مختلفتين لجوهر واحد، قابلتين للاستحالة من احداهما الى الأخرى. فنحن نستطيع تصور مادة تتفجر الى هباءات صغيرة جداً يمكن تسميتها طاقة. بيد أن جزءاً من تلك الطاقة يتألف من أجسام ذات سرعات عالية. فمن أين جاءت تلك الطاقة؟ ان الأجسام مؤلفة من مقومات في داخل الذرات لها سرعات عالية. وهذه المقومات يمكن أن تتحرر بواسطة التفجير. وحتى لو لم نكن قادرين على أن نعرف بالضبط كيف يحدث ذلك، فإننا نملك أن نكون على ثقة بأن الطاقة لا تجترح في الحال من لا شيء. لكننا سندخل هنا أرضاً ملغومة، عندما تواجهنا حكاية اجتراح الجسيمات التلقائي من الفراغ، مع ذلك، ان هذا لا يخرق المبدأ، لأن الفراغ ليس خالياً تماماً من"الأشياء". إن ما يُدعى بپ"طاقة نقطة الصفر"هي طاقة الفراغ، وهذا يعني ان الفراغ يشتمل على عناصر صغيرة جداً الى حد أننا لم نستطع اكتشافها حتى الآن عدا ما يُسمى بالتجارب المشابهة لتجربة كازيمير، وقد اعتبر كثر من العلماء أن هذا أشبه بخلق المادة من فراغ. لكن توم فان فلاندرن يؤكد ان المبدأ هنا لم يتغير، لأن المقومات التي منها تجترح الأشياء موجودة سابقاً، سوى أننا لم نستطع اكتشافها بعد. إن هذا لا ينفي وجود المادة. لكن البعض يزعم أن ميكانيك الكم فيزياء الذرة ومكوناتها نسف مفهوم السببية، واذا كان لها وجود فهو مقصور على العالم المرئي، عالم الفيزياء الكلاسيكية، فيزياء غاليليو ونيوتن. وان مبدأ نيلز بور التكميلي يؤكد أننا لم نعد نستطيع تقديم تفسير موحد وموضوعي، ومستقل عن المُشاهد أن الراصد في الفيزياء. يذهب المؤمنون بميكانيك الكم الأرثوذوكسي، الى أننا عند التعامل مع الالكترون، والفوتون أصغر وحدة ضوئية، لا نستطيع الحصول إلا على حقائق جزئية. ذلك أن المبدأ التكميلي الذي يُنسب الى العالم الدنماركي نيلز بور يؤكد أننا اذا أردنا الكشف عن الطبيعة الجسيمية للالكترون، فإننا نستطيع ذلك. وإذا أردنا أن نكشف عن الطبيعة الموجبة للالكترون، فإننا نستطيع ذلك أيضاً. لكننا لا نستطيع الكشف عن الطبيعة الجسيمية والموجية للالكترون في الوقت نفسه. لكن العقود الأخيرة شهدت محاولات تجارب لنقض المبدأ التكميلي، والبرهنة على امكانية الكشف عن الطبيعة الجسيمية والموجية للالكترون، أو الفوتون، في الوقت نفسه. ولا تزال هذه المحاولات في حاجة الى التثبت من صحتها، لكنها لا تلقى ترحاباً من المؤسسات العلمية الرسمية، لأنها تنسف الصرح الفلسفي الذي تعتمد عليه. ثم ان العجز حتى الآن عن التوصل الى تحديد سرعة وموقع الالكترون في آن واحد وهو ما يدعى بمبدأ اللاحتمية يختلف عن اللاسببية. ان وصول الالكترون الى المكان الذي يصله يبقى خاضعاً لسلسلة من الأحداث. وهناك أمثلة عدة في الطبيعة على أنظمة سببية لكنها لا حتمية. ان الزحلوقة التي تتزحلق الى أسف تل وعر تصل الى موضع في الأسفل يتعذر توقعه سلفاً. واذا ابتدأت بالتزحلق من موقع مختلف اختلافاً طفيفاً، فإنها ستصل الى موقع يختلف اختلافاً كبيراً في الأسفل. لكن عدم التنبؤ لا ينفي مبدأ السببية هنا. ويمكن أن يحصل تغير في المواقع بين العلة والمعلول، كأن يؤثر المُشاهِد على المشاهَد، والمشاهَد على المشاهِد، لكن هذا لا يغير من حقيقة وجود الشيء. انه لا يُجترح بفعل الرصد. ان المادة لها طبيعة موجية وجسيمية شيء محير فعلاً، لكنه ليس مبرراً للتخلي عن الإيمان بالواقع الفيزيقي للأشياء، كما يؤكد هاري نيلسن. مع"مُشمع"الفضاء ندخل مملكة"أليس في بلاد العجائب"، عندما يُشيأ اللاشيء. وذلك عند الحديث عن تمدد الفضاء، في ضوء نظرية"الانفجار الكبير"، التي تزعم ان الكون كان كله قبل 10 - 20 بليون سنة بحجم الهباءة، أو الصفر، وبطاقة أو قوة لانهائية، خارقة، ثم انفجر، وبدأ بالتمدد منذ تلك اللحظة، التي تُدعى لحظة الفرادة Singularity. ثم نشأت المادة من حساء الانفجار، ومنها نشأت النجوم والكواكب والمجرات، ولا يزال الكون، بمقتضى هذه النظرية في حال تمدد. وهنا يُشبّه الفضاء المتمدد بالمنطاد المستمر في انتفاخه. وفي إطارٍ آخر، بحسب تفسير نظرية النسبية لاينشتاين يشبّه الفضاء بمشمع، والنجوم بحصى جالسة على مشمع الفضاء هذا، وتبعجه، فتُحدث في"المشمع الفضائي"انبعاجات. هذه الانبعاجات"الهندسية"هي سبب الجاذبية، بمقتضى هذه النظرية. على سبيل المثال، ان الأرض تدور حول الشمس بفعل انزلاقها المستمر على المشمع الفضائي المنبعج بفعل الشمس. لكن المشمع ذو بُعدين طول وعرض، والفضاء ذو ثلاثة أبعاد، فكيف يصح مثل هذا التشبيه؟ هذا التفسير لا يتماشى مع المنطق السليم، ولا يلقى قبولاً عند كثير من العلماء. يقول معارضون: اذا وُجد مثل هذا الشيء، أي فضاء - زمن منحنٍ، واذا كان قادراً على جعل الجسم يتحرك، ينبغي أن يكون هذا الشيء، أي الفضاء - الزمن مؤلفاً من شيء ملموس، أو"صُلب"، أي أن يكون قادراً على التأثير على جسم، واذا كان الأمر كذلك، فإنه يتألف من حامل فعل آخر تم إحداثه بواسطة حوامل ترجع الى مصدر الجاذبية. إنه لمن المعقول أن نعترف بأننا لا نعرف شيئاً عن مقومات"الفضاء - الزمن"، أي الأشياء التي يتألف منها"الفضاء - الزمن"، أو كيف ينتقل فيه الحدث. لكن من غير المعقول الزعم بأن"الفضاء - الزمن"لا يتطلب ارتباطاً بمصدر أو هدف الجاذبية. ولنعد مرة أخرى الى مثال الحصاة والمشمع الفضائي، لنفترض أن هذه الكُرية هي في حال سكون. اذا كانت في حال سكون، فينبغي أن تبقى في حال سكون ما لم تفعل قوة ما فعلها عليها. لكن يُطلب منا أن نتصور أن الكريّة هي في سبيل التدحرج نحو قاع المنحدر، وعلى هذا الأساس يُحدث"الفضاء - الزمن"التأثير الذي ندعوه جاذبية، إنه تفسير هندسي، ليس إلا، بيد أننا إذا ناقشنا هذا التفسير من منظور السببية أي العلة والمعلول، فإن مُلاءة المشمع أو المطاط، أو"الفضاء - الزمن المنحني"، اذا وُضعت في فضاء بلا جاذبية موجودة تحت الملاءة، فإن الحصاة ستبقى في مكانها على طرف المنحدر. إن وجود المنحني، حتى لو دخل الزمن في عملية الانحناء، ليس سبباً للحركة، إن"القوة"وحدها حامل الزخم قادرة على اجتراح الحركة. والقوة هي السبب، أو العلة. لذلك يؤكد المخالفون لفكرة تمدد الفضاء أن هذه البدعة سخيفة، لأن الأشياء المادية وحدها يمكن أن يقال عنها منطقياً بأنها قادرة على التمدد. بهذا الصدد، أي حول فكرة تمدد الفضاء، كان للعالمين البارزين، ستيفن واينبرغ، ومارتن ريس هذا الرأي: ان الناس العاديين، وحتى علماء الفلك، يتحدثون عن الفضاء المتمدد. لكن كيف يمكن للفضاء، الذي هو خالٍ تماماً، أن يتمدد؟ كيف يتمدد"اللاشيء"؟ انه"سؤال في محله"، كما يقول واينبرغ."أما الجواب فهو: ان الفضاء لا يتمدد. يتحدث علماء الكونيات أحياناً عن الفضاء المتمدد، لكنهم ينبغي أن يعرفوا شيئاً أفضل من ذلك". ويتفق معه مارتن ريس تماماً."ان الفضاء المتمدد هو فكرة لا يُرتجى منها خير". لكن الفيزياء الرسمية تصر على أن الفضاء في تمدد مستمر. هذا يعود بنا الى المدى الذي يستطيع أن يتحرك فيه الفيزيائيون، لسوء حظ الفيزيائيين انهم لا يستطيعون أن يكونوا مطلقي الحرية، مثل الرياضيين. اذا تمردوا على قيودهم، ابتعدوا عن الفيزياء، وأصبحوا رياضيين أكثر منهم فيزيائيين. لنأخذ موضوع الأبعاد، مثلاً. ان الرياضيين أكثر حرية في التعامل معها. نحن نسمع عن الأبعاد المتوازية، والپhyper-dimentions، والأبعاد الزمنية المضاعفة، وأكثر من ثلاثة أبعاد فضائية من غير البعد الزمني، الخ. هذه أبعاد يستطيع الرياضي أن يتعامل معها، أما في عالم الفيزياء فهي لا تعدو أن تكون فانتازيا. ان مشاهداتنا كلها، وتجاربنا كلها، تفسر تفسيراً كاملاً وتاماً بأبعاد الفضاء الثلاثة، والبعد الزمني، وبعد الكتلة، ورغم وجود الكثير من النظريات عن الأبعاد الإضافية، فلسنا بحاجة الى مقتضياتٍ نظرية لأي بعد عدا عن الأبعاد الخمسة التي هي جزء من واقعنا اليومي. لذا، ليس يستحسن نسيان"مبدأ أوكام"القائل بأننا لا ينبغي أن نطرح فرضيات أكثر من الحد الأدنى المطلوب. وهنا لا يتعين علينا أن نبتكر أبعاداً فيزيائية اضافية ما لم تتطلبها الضرورة الضرورة، وليس ما يأتي ملبياً لأهوائنا. إن الأبعاد الرياضية الإضافية شيء حسن، اذا حققت غرضاً، على أن لا تتعارض مع الحقيقة الفيزيائية، كما يقول توم فان فلاندرن.