كنت أريد أن أضيف عنواناً ثالثاً لهذه الكلمة اشارة الى رد الاعتبار لمبدأ الديالكتيك، أيضاً. لكنني خشيت أن يكون العنوان الثلاثي طويلاً... على أي حال، ان موضوع كلمتي الأساسي هو عن اشادة النظر في مبدأ اللاحتمية في ميكانيك الكم أو فيزياء ما تحت الذرة، الذي يُنسب الى العالم الألماني فيرنر هايزنبرغ 1901 - 1976. فمنذ عشرينات القرن العشرين ساد مفهوم اللاحتمية في الفيزياء، واتكأ عليه الفكر الفلسفي، فأسهم في إحداث بلبلة في صفوف المثقفين، لأنه أعطى دفعة قوية للفكر المثالي من خلال"لبوسه العلمي"هذا. ومبدأ اللاحتمية في ميكانيك الكم يقول انك اذا استطعت تحديد موقع الالكترون، فلن يكون في وسعك تحديد سرعته، واذا استطعت تحديد سرعة الالكترون، فلن يكون في مقدورك تحديد موضعه. وجاء في موازاة ذلك ما يُسمى المبدأ التكميلي الذي يقترن باسم العالم الدنماركي نيلز بور 1885 - 1962، الذي يقول انك اذا أردت أن تكشف عن الطبيعة الجسيمية للالكترون، ففي وسعك أن تفعل ذلك، واذا أردت أن تكشف عن الطبيعة الموجبة للالكترون، ففي وسعك أن تفعل ذلك أيضاً. لكنك لا تستطيع الكشف عن الطبيعة الجسيمية والموجبة للالكترون في الوقت نفسه. ليس ذلك فحسب، بل ان ميكانيك الكم الأرثوذوكسي، أو ما يُدعى بمبدأ كوبنهاغن مسقط رأس نيلز بور لا يعترف بالحقيقة الموضوعية للأحداث وسيرورتها. ان الأحداث توجد من خلال مشاهدتها فقط. جون ويلر يقول ان الكون موجود من خلال مشاهدتي فقط، بمعنى ان الكون لا وجود له في غياب جون ويلر! لكن هذا التفسير"الذاتي"للوجود لا يهمنا كثيراً، لأنه لا يمكن أن يُحمل على محمل الجد. ان ما يهم هو مبدأ اللاحتمية. فعند هايزنبرغ وبور، وهما من كبار علماء الفيزياء في القرن العشرين، أصبح مبدأ اللاحتمية منطلقاً لبناء صرح رياضي وفلسفي أو ذريعة رياضية لرفض الحقيقة المادية. وهنا أصبحت المشاهدة حجر الزاوية. ينبغي أن تفسر الفيزياء، كعلم مبني على قياس السيرورات، وان أي تصور عدا ذلك لا يمكن الركون اليه. أي ان السؤال حول موضع الجسيم، أي أين كان قبل قياس موقعه لا معنى له. ان الجسيم يتجسد نتيجة لفعل المشاهدة. عند هايزنبرغ وبور، إن المشاهد الراصد لا يؤثر على ما يشاهده فحسب، بل انه يخلقه يجترحه. كان ذلك بالاستناد الى"تجربة ذهنية"طرحها هايزنبرغ في 1927. لكن هذا التفسير لم يلق اجماعاً عاماً بين علماء الفيزياء، بمن فيهم علماء مهمون أسهموا في تطوير ميكانيك الكم. بيد أن أحداً لم يستطع الرد بقوة على حجج نيلز بور، الذي كان يملك طاقة كاريزمية خارقة. ما كان في وسع أي امرئ أن يشك في أي شيء يقوله بور. ان المرء مهما أوتي من ذكاء وفطنة، يملك أن يشك في نفسه، وليس في بور الذي كان مجادلاً لا يبارى! حتى آينشتاين، الذي نفخته المؤسسة العلمية كثيراً، لم يكن قادراً على إقناع بور بما كان يؤمن به، هو آينشتاين، من أن ميكانيك الكم مبدأ غير كامل، في أفضل الأحوال... تجدر الإشارة هنا الى ان تفسير هايزنبرغ وبور يأتي على مرام المؤسسة العلمية الرسمية، لأنه ينتصر للفكر المثالي، وحتى الغيبي. والمشكلة هنا، على ما يبدو، يسري عليها المثل الآتي:"العين بصيرة، واليد قصيرة". ذلك أن كثيراً من العلماء كانوا يعتقدون بأن هناك خللاً أو نقصاً في مبدأ كوبنهاغن الأرثوذوكسي في تفسير ميكانيك الكم. لكنهم لم يستطيعوا تعزيز هاجسهم بالتجربة، لأن التكنولوجيا ظلت قاصرة على مدى عقود من السنين. ثم قرأنا في كتاب جون غريبن قُطيطات شرودنغر، الصادر في 1995، عن تجربة مثيرة أجراها باحثون يابانيون بالاشتراك مع فريق من العلماء الهنود، تثبت ان الضوء يمكن أن يتصرف كموجة وجسيم في الوقت نفسه. وهذا يعني نقضاً لمبدأ ويلز بور التكميلي الذي يذهب الى اننا لا نستطيع الكشف عن الطبيعة الموجية والجسيمية للالكترون أو الفوتون أصغر وحدة ضوئية في آن واحد. وكانت هذه التجربة قد أجريت في اوائل تسعينات القرن العشرين. ولعلها كانت أول تجربة تنسف مبدأ اللاحتمية لهايزنبرغ وبور، وتقدم تفسيراً جديداً لميكانيك الكم. وقد نقلتُ تفاصيل هذه التجربة ومرتسماتها في كتابي: الثورة العلمية الحديثة وما بعدها، الصادر في 2004. لكنني لم أقف ? في حدود اطلاعي ? على أي مصدر آخر يشير الى هذه التجربة، وكأنها كانت رجساً من عمل الشيطان. بل انني قرأت، بعد ذلك، في كتاب أو مصدر آخر، لا أذكره، غمزاً لكتاب قطيطات شرودنغر المشار اليه أعلاه، يفيد بأنه كتاب عفّى عليه الزمن، ربما للتعمية على هذه التجربة بالذات، التي يمكن اعتبارها أهم ما جاء في الكتاب. وفي العام 2001 تصدى شهريار أفشر مبدئياً لهذا الموضوع في تجربة في معهد دراسات الكتلة المستحثّة شعاعياً، وبعد ذلك أعادها في 2003 في جامعة هارفرد الأميركية. ثم قدم نتائج بحثه في سمينار في أيار مايو سنة 2004 تحت عنوان قراءة السلام على مبدأ كوبنهاغن: هل كان مؤسسو ميكانيك الكم مخطئين؟ وفي آخر شهر أيار 2005، ألقى أفشر محاضرات عن نتائج بحثه في عدد من الحلقات الدراسية في الجمعية الفيزيائية الأميركية في لوس أنجليس. ونشر ورقته في عدد من المجلات العلمية في أميركا وبريطانيا. تلتها تعليقات وردود فعل كثيرة، من عدد من العلماء شكك بعضهم في نتائجه. ثم رد عليها أفشر. لكننا وجدنا أنفسنا في حال من الضياع بين تجربة أفشر، والطاعنين فيها. فنقرأ مثلاً في الانترنيت:"على رغم أن تجربة أفشر لا تزال موضوع نقاش وتفسير، الا ان جانباً لا يستهان به من الجالية العلمية يرى أن تجربة أفشر لا تنقض المبدأ التكميلي". وهذا يبقينا في العتمة. ثم أخذ رأي جون غريبن، صاحب كتاب قطيطات شرودنغر، في تجربة شهريار أفشر، فجاء جوابه في جريدة الانديبندنت اللندنية في 14 تشرين أول أكتوبر 2004: "سيدي: ان تجربة شهريار أفشر التي تثبت أن الكيانات الكمية هي جسيم وموجة في الوقت نفسه مهمة حقاً وممتعة، بيد أن هذه ليست أول مرة شوهدت فيها الطبيعة الثنائية للفوتونات أصغر الوحدات الضوئية مباشرة. في تجربةٍ استنبط فكرتها ديبانكر هوم، من معهد بوزة في كلكتا، ونُفذت على أيدي يوتاكا ميزوبوتشي ويوشيوكي أوهتاكة في معهد الفوتونيات في هاماماتسو في أوائل التسعينات،"ضُبطت"فوتونات منفردة تتصرف كموجة وجسيم في الوقت نفسه". ها هو جون غريبن يظهر ثانية، ليس فقط ليذكرنا بالتجربة الهندية - اليابانية، بل ويؤكد ضمناً أنها تدحض مبدأ بور التكميلي. ثم نقرأ مقالاً بقلم هاري نيلسن، نشر في 13 تموز يوليو 2005، تحت عنوان ضد تفسير كوبنهاغن لميكانيك الكم، جاء فيه:"لسوء حظ هايزنبرغ، ان التقدم التكنولوجي الحديث أتاح للعلماء أن يؤكدوا أن مسار الجسيم ما تحت الذري شيء حقيقي تماماً. لقد باتت شائعة مشاهدة مسارات الجسيم في التجارب التي تُجرى في حقل فيزياء الطاقة العالية، حيث يمكن تحديد الموضع والسرعة في حدود أقل مما يقول بها مبدأ اللاحتمية". وجاء أيضاً:"لقد دافع هايزنبرغ عن موقفه ضد مثل هذه الأدلة في قوله ان مبدأه عن اللاحتمية كان يتعلق فقط بمسألة التنبؤ بالمستقبل". لكنه قال أيضاً:"أما معرفة الماضي فهي ذات طبيعة تفكرية تصورية فقط... انها مسألة اعتقاد شخصي فيما اذا كانت مثل هذه الحسابات التي تتعلق بماضي الالكترون يمكن اسنادها الى أي حقيقة فيزيائية أم لا"... ان اعتراف هايزنبرغ بأنها مسألة اعتقاد شخصي يؤكد أنه يعترف بأن تفسيره المثالي لسلوك الجسيمات هو خيار ايديولوجي. وان المهرب الذي تطرق اليه وهو أن مبدأ اللاحتمية يتعلق فقط بمسألة التنبؤ بالمستقبل ? انما هو تخريج بارع"كما يقول هاري نيلسن. ثم قرأنا في ورقة أخرى، من اصدار العلماء العاملين في معهد ماكس بلانك في برلين، نُشرت في 29 أيلول سبتمبر 2005، تحت عنوان هل يمن للالكترون ان يكون في موضعين في آن واحد؟، ان تجارب هذا الفريق من العلماء، بالتعاون مع باحثين من معهد كاليفورنيا التكنولوجي في باسادينا، أظهرت أن الطبيعة الجسيمية والموجية للالكترونات في جزيئات النايتروجين أمكن الكشف عنها في آن واحد. وهذا ينسف مبدأ نيلز بور التكميلي، الذي يؤكد أننا لا نستطيع الكشف عن الطبيعة الجسيمية والموجية للالكترون في الوقت نفسه، بل عن الطبيعة الموجية فقط، أو الجسيمية فقط. أو بكلمة أخرى، وكما جاء في الورقة:"هناك حالات تمّت البرهنة عليها من خلال التجربة تظهر فيها المادة كجسيم وموجة معاً". وجاء أيضاً:"في هذه المنطقة الانتقالية، يمكن التوسع في المبدأ التكميلي، والطبيعة الثنائية التكميلية، فيصبحان مبدأ للتعايش، للثنائية المتوازية، ان الطبيعة، في هذه الحال، لها طابع تكافؤ الضدين، لم يكن معترفاً به في السابق". ويبدو أن هذا لا يختلف في شيء عن القول بالمبدأ الديالكتيكي في الطبيعة، لكن بتعبير آخر. أفلا ينبغي رد الاعتبار لهذا المبدأ أيضاً، بعد أن بات الحديث عنه سُبّة، أو تحجراً ايديولوجياً بعد سقوط التجربة الاشتراكية، وبعد أن أكد لنا ما بعد الحداثيين ان الديالكتيك أصبح حديث خرافة. والآن، بعد هذا كله، ما قيمة الطعون في تجربة شهريار أفشر، والتعامي عن التجربة اليابانية ? الهندية، اذا كان معهدان علميان من أرفع المعاهد العلمية سمعة في العالم، نعني بهما معهد ماكس بلانك في برلين، ومعهد كاليفورنيا التكنولوجية في باسادينا، توصلا الى النتائج نفسها التي تؤكد الطبيعة الجسيمية والموجية للكيانات ما تحت الذرية. ولماذا لا تعترف المؤسسة أو المؤسسات العلمية الرسمية بذلك على رؤوس الأشهاد؟ والى متى يبقى الإصرار على مبدأ اللاحتمية في الفيزياء ما تحت الذرية في الوقت الذي تعددت التجارب المختلفة لدحض هذا المبدأ؟