ما حدث في المؤتمر الأخير لاتحاد الأدباء العرب هو مناسبة للتأمل في آليات التفكير في حياتنا الثقافية. فمن يعتقد أن عزل اتحاد الأدباء العراقيين الذي مارسه بحقه اتحاد الكتاب العرب قبل نحو شهرين في القاهرة، له علاقة بالحجة التي صرح بها الرئيس الجديد في حينه، أو أمر يقتصر على الاتحاد فقط، سيخيب ظنه. فالأدباء العراقيون، الذين خبروا العزلة جيداً يعرفون ذلك قبل غيرهم، يعرفون أن كل الاتحادات العربية، هي اتحادات تمولها وتشرف على سياستها دولها، وإن تهمة العمالة لپ"أميركا والاحتلال..."، التي صرح بها رئيس اتحاد الكتاب العرب الجديد، بصفتها السبب الوحيد الذي كان وراء استثناء دعوة العراقيين، هي"علكة"سمجة للاستهلاك المحلي والصعود الوظيفي ليس إلا، ناهيك بأنها مزايدة فارغة على الكتاب العراقيين، ليس لأنهم غير مسؤولين عن الاحتلال وحسب، بل لأن لا مصر التي استضافت المؤتمر ولا الدول التي صنفها الرئيس الأميركي بوش في خطابه الأخير، بالپ"الدول العربية المعتدلة"، التي شاركت اتحاداتها في المؤتمر، لا تقيم علاقات أكثر من حميمة مع"الصديق"الأميركي! سأترك أمر المؤتمر ومدى صحة استقلالية الاتحادات العربية إلى زملاء لي في البلدان العربية، لم يشرفهم الانتماء يوماً إلى هذه الاتحادات التي تعتقد أنها تمثلهم، أيضاً ولئلا ندخل في نقاش تهمة العمالة التي حُكم بها على الكتّاب العراقيين، من الضروري البحث عن الاستقلالية التي يفتقدها الزملاء العرب عند زملائهم العراقيين، لأن التهم التي تكال للعراقيين، هي أبعد من اتحاد الكتاب العرب. وليس من المبالغة القول، إنها تهمة أصبحت شائعة، وانتقلت مثل فيروس من فم إلى فم، يواجهها معظم الأدباء العراقيين، سواء في اللقاءات الثقافية التي يُبعدون عنها، أو في الصفحات الثقافية، التي أصبحت أرضاً حراماً بالنسبة لإبداعاتهم ومساهماتهم. ترى هل كانت هذه الاستقلالية موجودة في اتحاد الأدباء العراقي السابق؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التحدث قليلاً عن اتحاد كتاب العراق حتى تاريخ 9 نيسان أبريل 2003، ربما كيلا نسمع الاسطوانة"المشخوطة"من جديد في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب المقبل، فربما يسمعنا أحد هذه المرة؟ طوال 35 سنة من فترة حكم حزب البعث وسلطة صدام حسين، خضع اتحاد الكتاب العراقي لنظام النقابات والجمعيات المهنية الذي شرعه"مجلس قيادة الثورة"، والذي خول وزارة الثقافة أو الإعلام التحكم بعمل الاتحاد. كان يحق لوزير الثقافة - وفق قانون اتحاد الأدباء ونظامه الداخلي - حل هيئات الاتحاد الشرعية متى أراد، وتشكيل هيئة جديدة. وإضافة إلى ذلك كان الاتحاد مرتبطاً ارتباطاً رسمياً وتنظيمياً بما يسمى ب"المكتب المهني"التابع للحزب الحاكم، ما يعني خضوع الاتحاد كاملاً للخط الأيديولوجي لما أطلق عليه صدام"مكتب الإعلام القومي"الذي أشرف عليه آنذاك طارق عزيز والذي ارتبط شخصياً بصدام مباشرة. أما انتخابات الاتحاد فكانت تُجرى من خلال توجيهات حزبية صارمة بحيث يرشح الحزب الحاكم قائمة محددة ويعلن مقدماً رئيس الاتحاد فيها. كان اسم رئيس الاتحاد معروفاً سلفاً أيضاً، ولكن على عكس ما جرى للرئيس الراهن لاتحاد الكتاب العرب، وللرؤساء من قبله، الذين كان يكفي ولاؤهم الذي يقدمونه لأنظمتهم كي يفوزوا برئاسة الاتحاد مسبقاً، كان لزاماً على رئيس الاتحاد العراقي أن يستوفي شروط أخرى، كانت معلنة كي يحصل على حق الترشيح للانتخابات: يجب أن يتمتع بما يسمى"السلامة الفكرية"، وپ"الأصالة العربية"النقاء العرقي!، وأن يكون استوفى واجبات المشاركة في وحدات"الجيش الشعبي"أو"فدائيي صدام". مع جلوس عدي على عرش الاتحاد، دخلت شروط"غير"أدبية أخرى للحصول على حق الترشيح، واصبح الابن المدلل لصدام يحل الهيئات الإدارية ويشكل أخرى وفق هواه. في كل تلك الانتخابات كان عدي يختار قائمة خاصة تعتمد على الولاءات الحزبية والشخصية له. تلك هي بعض حقائق"ديموقراطية"المؤسسات الثقافية في العهد الديكتاتوري التي بكى عليها جمع غفير من الكتاب العرب، وهي حقائق يُفترض أن تكون معروفة على الأقل لممثلي الاتحاد، الذين حضروا آنذاك الدورات الانتخابية المختلفة، أو على الأقل عرفوها بعد قراءتهم الرسالة الاحتجاجية التي بعثها اليهم اتحاد الأدباء في العراق. ولكن هل بكاء الكتّاب العرب هؤلاء له علاقة بالديموقراطية فعلاً؟ في إمكاننا أن نحصي قائمة طويلة من أسماء الأدباء الذين سجنوا والمسجونين راهناً، وفي مختلف البلدان العربية، ولئلا نذهب إلى بلدان أخرى بعيدة من مقر الاتحاد، سنكتفي بمثال سورية، حيث ظل مقر الاتحاد هناك مدة سبع وعشرين سنة، وحيث"أقام"وپ"يقيم"في السجون أدباء ومنهم الشاعر فرج بيرقدار الذي سجن خمس عشرة سنة صدر له حديثاً كتاب في بيروت يتحدث عن تجربة السجن. وقبل سنة سجن المفكر السوري ميشيل كيلو وعارف دليلة. وفي كل ذلك لم يصدر اتحاد الكتاب العرب بياناً واحداً يدعو الى إطلاق سراح هؤلاء أو معرفة مصيرهم. أما في العراق الذين يرثونه، فعندما أُعدم في أواسط السبعينات رئيس اتحاد الكتّاب في العراق الشاعر شفيق الكمالي، - وهو في الحقيقة شاعر بعثي، لكنه لم يرقْ لصدام، فأمر بإرساله إلى حتفه مسموماً بالثاليوم - فلم يصدر أي بيان استنكار. بل عوض ذلك، كانت تُكال يومياً في الصحف العربية الصادرة في العالم العربي أو في أوروبا كلمات المديح للنظام العراقي، وعلى كل المستويات: القصائد، الروايات، الأغاني، الأفلام، المسرحيات. ولم يحصل نظام عربي آخر على هذه الأطنان من المديح، مثلما حصل عليه نظام البعث في بغداد. مئات الأدباء والفنانين حلوا ضيوفاً دائمين على بغداد بدعوة من"وزير الشعراء"كما نعته أحد شعراء الأمة، وممثل صدام حسين، لطيف نصيف جاسم، يتنقلون من مهرجان إلى آخر: مهرجان المربد الشعري السنوي في البصرةوبغداد، ومهرجان أبي تمام الشعري في الموصل وبغداد، ومهرجان بابل الدولي، الذي كان يُقام بمناسبة عيد ميلاد صدام حسين. وكانت الحكومة العراقية تدفع بسخاء مقابل عشرات الروايات والقصائد التي كُتبت في ذاك الحين تمجد بطولة المقاتل العراقي وتتوعد العدو"الصهيوني"وپ"الفارسي"و"الكردي"بالهزيمة. أما دور النشر اللبنانية التي كانت تجرؤ على نشر رواية أو ديوان شعر لعراقي منفي ومعارض، فكنت تُقاطع. مجلات تؤسس في باريس ولندن، بتمويل من صدام... كل هذا ذهب مع الريح، مع ذهاب صدام، فكيف لا يبكي عليه"المناضلون"من الكتاب العرب، الذين كان السفاح يوزع عليهم هداياه وعطاياه مثل خليفة في"ألف ليلة وليلة"؟ اليوم ماذا تبقى لهؤلاء غير التغني بنضالات فارغة، تعد للمرة المليون بتحرير كل شبر من فلسطين؟ لا حديث عن الحريات، لا حديث عن الرقابة وعن تغلغل الفكر الأصولي في المؤسسات الثقافية والإعلامية... لا شيء من ذلك، لا شيء غير هجوم على الأدباء العراقيين"العملاء"جميعاً، في الداخل والخارج، والدعوة الى عزلهم تماماً. ولا شيء غير خطاب مريض ينتمي الى القرون الوسطى، يقود معركة طواحين هواء ضد عدو وهمي اسمه"الإمبريالية والصهيونية". لكنّ ما لا يعرفه الكتّاب"العاطلون من الأدب"، الذي لا يريدون التعلم من التاريخ، أن الأدب لا تكتبه البيانات والمؤتمرات، الأدب لا تكتبه الاتحادات والأحزاب والدعوات، الأدب تكتبه الحياة نفسها، ويزدهر بازدهار الحرية، وبناء الجسور، على الأقل مدّ الجسور بين الأخوة أنفسهم، بدلاً من أن يُلقي كل واحد منهم ما أن تُسنح له الفرصة، بأخيه في الجبّ!