ثمة مجموعة من القرائن الواضحة، تشير الى تراجع النفوذ الاميركي في العالم وانحداره، وتبرز مجموعة من المعطيات التي تحول دون الاستفراد والوحدانية القطبية، فالاضطراب الذي يعتريها، هو الملامح الأولى لما يسمى"مرض الامبراطوريات التاريخي"، والمرتبط بعوامل خارجية وداخلية، بدءاً من اضطراب سوء التقدير، وصولاً الى عقم ما تنتجه من قرارات خارجية، وقد أخذت تفلت من بين يديها كل"النعم"الامبريالية التي حظيت بها، في آسيا الوسطى وآسيا - المحيط الهادي، وأميركا اللاتينية. وبسبب من استبعاد ادارتها للمقاربات الواقعية في الشرق الأوسط، فالإدارة الراهنة المنغلقة والمنفصلة عن الواقع لم تعبأ بنصائح أصدقائها التي وجهت اليها. لقد أسدلت ممارستها الستار على شعاراتها المزعومة حول"الديموقراطية وحقوق الانسان"وحولتهما الى جعجعة لغوية، خصوصاً عبر ممارستها في الحالة العراقية التي وصلت الى الاخفاق، وفي هذا السياق يندرج تحذير بيكر - هاملتون من ان تكاليف الحرب على العراق يمكن ان تتجاوز تريليون دولار. وبذات الصدد يعبر قرار الرئيس بوش، بزيادة عديد القوات الأميركية في العراق تحت مسمى"استراتيجية النصر الجديدة"عن الخيارات الصعبة والكارثية التي تواجهه هناك، ومن ثم عن عدم الاكتراث بالمعضلة الحقيقية الاساس. وفي محاولة إحداث لمسات تكتيكية موقتة، للتغطية على الفشل وتأجيجها للاحتقان الطائفي، والمحصلة عدم قدرة الإدارة الاميركية الراهنة على التغير واستدعاء المقاربات البراغماتية والحلول العقلانية، ووضع جدول زمني واضح لسحب قواتها من هناك، فالوقائع العملية تشير الى منهجية الإدارة الأميركية في التأجيج المذهبي والطائفي. ففي سياق ما يحظى بتأثير عظيم لدى بوش اسهامات الصهيوني ناتان شارانسكي في"سحر الديموقراطية"وكتيبه"الدعوة من أجل الديموقراطية"بمشاركة رون بيرنر من مخلصي نتانياهو - مفوض اقتصادي في سفارة اسرائيل في واشنطن - فالكتيب مصدر إلهام ايديولوجي لبوش للحملة على العراق والشرق الأوسط، وغدا بسبب هذا الإلهام واسع الانتشار في أميركا، وللتنويه، فقد حصل شارانسكي في منتصف شهر كانون الأول ديسمبر الماضي، على تكريم من بوش بتقليده"وسام الحرية"الأميركية، بما يحمل من ترميز للنيات"الخيرة"، مقاربة بالعلاقة التجريدية لبوش بتقرير بيكر - هاملتون حول العلاقة بين أزمات أميركا في الشرق الأوسط وبين حل الصراع العربي - الاسرائيلي، ومن دون اغفال ان مفاقمة التأجيج الديني والمذهبي والإثني الشرق أوسطي، هو الاساس في الاستراتيجية الاسرائيلية القديمة - الجديدة من باكستان حتى المغرب. وهكذا يمكن ان نفهم لماذا لا يعبأ بوش بالرأي العام الأميركي والكونغرس الديموقراطي الجديد، فالرئيس الاميركي هو المسؤول دستورياً عن السياسة الخارجية والقوات المسلحة، وعليه فهو ينام بعمق في ولايته الثانية، والتي تشكل احدى نقاط ضعف الديموقراطية الاميركية، ما لم تقع أحداث دراماتيكية تؤثر على الانتخابات الرئاسية المقبلة ومستقبل حزبه فيها. لقد جاءت في تقرير بيكر - هاملتون فقرة:"ان الجيش الاميركي يتولى مهمات كثيرة مقارنة مع حجمه"، وفي السادس من كانون الأول ديسمبر الماضي، أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أمام الكونغرس، بأنه"منفتح على امكانية زيادة حجم القوات البرية"، وبأن معارك العراق قد أنهكت الجيش وأخذت تضيق على أهدافه الاستراتيجية، وفتحت هذه الفقرة السعي المحموم للادارة الأميركية لاستبعاد الحلول العقلانية واستخلاص الدروس التاريخية من بلاد الرافدين. وفي هذا الصدد لا يمكن اغفال تصريح الجنرال جون أبي زيد قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط والمكلف بالعراق طوال المدة السابقة، أمام الكونغرس الاميركي في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بأن"الجيش الأميركي غير قادر على زيادة عديد القوات المنتشرة في العراق، فالقوات البرية قد وصلت الى حدود طاقتها القصوى بخصوص العمل العسكري"، وكان من الأجدر التمحيص في دروس الاخفاق وهي سياسية بالتأكيد. لقد سبق ونصت الاستراتيجية الحربية الأميركية، على امكان"خوض حربين كبيرتين في وقت واحد"، وربطاً بالتأهب في المناطق الاستراتيجية في العالم، ويتضح الآن ان الواقع الفعلي بلا عمق استراتيجي لهذا المبدأ، فهو يقوم على القدرات الهائلة للتكنولوجيا الرقمية المعلوماتية المتقدمة، التي تجعل من الحرب اقرب الى العاب الفيديو، مستندة الى خفة العمليات العسكرية وسرعتها، وهي التي انتجت نظرية"التخفيف الرامسفيلدية"للجيش الأميركي، بيد ان ضرب الأهداف المنتقاة من على بعد آلاف الكيلومترات، لا يعني أبداً حسم الأهداف العسكرية والسياسية على الأرض، فالجيش الاميركي لا يستطيع خوض حروب طويلة إذا ما توافرت عناصرها، أو أمام حركات شعوب وجيوش غير نظامية، لا تنطبق عليها مواصفات الحروب الرقمية الحديثة، وهو ما تشير اليه خبرة التاريخ. ان ما لا تدركه مصالح لوردات الحرب، بأن زيادة العديد البري هي زيادة في تكبد الخسائر التي ستتحول الى وبال ونقمة. فجذر الإخفاق يكمن في عقيدة بوش القائمة على الحروب الاستباقية، واستخدام القوة التي وصلت الى خيبتها، وأدت الى تدمير المجتمع العراقي، وحمامات الدم ونهر من الجثث بإشعالها أتون حرب أهلية بغطرسة وطيش وهراء على ثقافة التسامح. فهي تسعى الى التفتيت باستبقاء قواعد عسكرية دائمة في العراق، فلا فرق بين مكونات الشعب العراقي إلا بالنفط، وفضلاً عن أميركا اللاتينية، فإن الاخفاق الاميركي في آسيا - المحيط الهادي قد بدأ، فكوريا الجنوبية الدولة المضيفة لقمة بوسان الأخيرة"منتدى آسيا - المحيط الهادي"، أعلنت عزمها على تخفيض وجودها العسكري في العراق على نحو جوهري، كما ان المفاوضات السداسية التي تستضيفها الصين حول الملف النووي لكوريا الشمالية، أفضت الى الفشل. لقد أتاحت لها المفاوضات البطيئة كسب الزمن وتطوير ترسانتها النووية وقيامها بتجربتها النووية الأولى، ودخولها النادي النووي، وفي المفاوضات الاخيرة في بكين حمل الكوريون الشماليون الى طاولتها بنداً واحداً فقط، هو الاحتجاج على الخطوة التي أقدمت عليها وزارة الخزانة الأميركية بتجميد نحو 24 مليون دولار من ودائعها في أحد بنوك ماكاو، وانتهت المفاوضات من دون تحديد موعد لاستئنافها، ومن دون ان تجد واشنطن متحمساً لتجديد العقوبات بسبب حماسة طوكيو وحساسية العلاقات التاريخية والتوقعات غير المنظورة. لقد سبقت قمة بوسان قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة، والتي تلعب موسكووبكين دوراً رئيسياً في إطارها، بالطلب من واشنطن وضع جدول زمني لسحب قواتها من آسيا الوسطى، وطالبتها أوزبكستان بإخلاء قاعدتها التي أقامتها إبان الحرب على افغانستان، وبذات الوقت وقعت أوزبكستان مع روسيا على معاهدة التعاون العسكري المشترك، التي تستفيد منها روسيا باستخدام المرافق العسكرية في هذا البلد، كما ان الجهود الأميركية لتشكيل تحالف يضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي إضافة الى المانيا، من أجل مواجهة ايران على خلفية ملفها النووي قد باءت بالفشل، وأفضت الى نتائج باهتة أمام الاندفاع الايراني، ومن الجدير بالذكر ان الادارة الاميركية سبق لها ان عرضت على ايران في أيار مايو الماضي إنهاء الحظر على المحادثات الأميركية - الايرانية والقائم منذ 28 عاماً، في حال تعليقها أنشطة تخصيب اليورانيوم وقد رفضتها ايران، كما ان الاجراءات الأميركية الحاسمة ضدها اصطدمت باعتراضات روسية وصينية، وتباينات في المواقف الأوروبية. ان الأزمة الكبرى للولايات المتحدة الاميركية تكمن في الشرق الأوسط، وقد اشار الى ذلك تقرير بيكر - هاملتون، حول العلاقة بين أزمات الولاياتالمتحدة في هذه المنطقة، وبين حل الصراع العربي - الاسرائيلي على اسس متوازنة، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، وتبين ان ادارة بوش لا تنوي الأخذ بها. ومن المهم الإشارة الى تعليق وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس على هذه الفقرة من التقرير، الذي يتطابق مع رد وزيرة الخارجية الاسرائيلية تماماً، بأن"الشرق الأوسط اليوم، ليس ذات الشرق الأوسط الذي يعرفه بيكر..."، باعتبار ان معرفته متقادمة تجريدية لحقبة مؤتمر مدريد 1991، واعتبار ان الحل المتوازن يعني"التضحية باسرائيل". لقد تهيأت مجموعة من العوامل لدور عربي جامع في هذه الحقبة الصعبة من تاريخ المنطقة. * كاتب فلسطيني