خلال ندوة عقدت في أبوظبي، منذ أسابيع قليلة، سئل الرئيس بوش الأب عن السياسة الأميركية في العراق فقال ان ابنه "صادق ومؤمن بما يفعل". انه اعجاب الأب بابنه. لكنه في الوقت ذاته كان يحاول انقاذه من مغامرته العراقية بأقل الخسائر الممكنة. وكانت لجنة بيكر - هاملتون تعد تقريرها وتوصياتها، وتسربها قليلاً قليلاً، كي لا تكون مفاجئة للأميركيين، خصوصاً انها تعترف باستحالة النصر في العراق. وسبقت إعلان التقرير جلسة استماع في الكونغرس لوزير الدفاع الجديد روبرت غيتس خلص خلالها الى النتيجة ذاتها. كانت أمام اللجنة خيارات كثيرة. أولها الانسحاب المفاجئ من العراق. لكن جيمس بيكر رفض هذا الخيار لأنه لا يليق بالولايات المتحدة أن تهرب. ويتيح لتنظيم"القاعدة"التمدد والانتشار. الخيار الثاني كان الاستمرار في تنفيذ الاستراتيجية المتبعة منذ الغزو، لكن الفكرة رفضت لأن الفشل كان حليفها منذ الأسبوع الثاني للاحتلال. وأثبتت الانتخابات الأخيرة ان الأميركيين يرفضونها. ووضع الجيش لم يعد يحتمل المغامرة. إذ يقتل حوالي مئة عسكري شهرياً. والتكاليف تبلغ بليوني دولار اسبوعياً. الخيار الثالث أمام اللجنة كان تسليم العراقيين المسؤوليات الأمنية وسحب القوات من المدن. لكن في ذلك مخاطرة. فالحرب القائمة بين الطوائف والمذاهب ستؤدي الى تقسيم العراق، والى حملة تهجير واسعة ترافقها مذابح ومجازر كذا!. استبعدت اللجنة الخيارات الثلاثة، وقررت اعتماد رابع يوصي بزيادة دعم القوات العراقية، ونقل المسؤوليات إليها تدريجاً. ثم يبدأ الانسحاب كلما حصل تقدم في الجانب العراقي، على ان يجري التفاوض مع ايران وسورية للمساعدة في استتباب الأمن والاستقرار، بما للدولتين من نفوذ على العراقيين. الواقع ان اللجنة الجمهورية - الديموقراطية كانت تدرس خياراً وحيداً هو الخروج من المأزق، من دون أن تلتفت الى ما حصل ويحصل في العراق. المهم عندها انقاذ بوش من ورطته، وانقاذ سمعة واشنطن. في كثير من الايجاز يستطيع أي مراقب للوضع العراقي تأكيد ان البلاد غارقة في حرب أهلية، منذ أكثر من سنة. عدد القتلى تجاوز ال650 ألفاً. بغداد مقسمة بين الشيعة والسنة، حملات التطهير العرقي والمذهبي مستمرة تشارك فيها ميليشيات وفرق موت واستخبارات دول تطمح الى ترسيخ نفوذها في بلاد الرافدين. ولا ننسى تنظيم"القاعدة"ومنظمة"بدر". كل ذلك حصل ويحصل تحت سمع وبصر القوات الأميركية و"الحلفاء". وفي غياب أي دور للدول العربية التي تبدو وكأنها فوجئت بالحرب، وما زالت ذاهلة. وفي العراق الممزق حكومة نصبها الاحتلال، زاعماً أنها وصلت الى الحكم بعملية ديموقراطية لم يشهد الشرق الأوسط مثيلاً لها من قبل، الا في اسرائيل، لكن اللعبة الديموقراطية تمت بموجب دستور تقسيمي يكرس الطائفية والمذهبية والعرقية والمحاصصة. ويقضي على مفهوم الوطنية الجامعة. أما الزعماء في المنطقة الخضراء جداً فلا هم لهم سوى حراسة مكاسب طوائفهم وميليشياتهم وعشائرهم. كل ينتظر فرصة للإنقضاض على حصة الآخر، والاستيلاء على ما يستطيع باسم الدستور. توصيات لجنة بيكر - هاملتون لن تعيد العراق الممزق الى وحدته. وليذهب العراقيون الى الجحيم. وليكن التلويح بتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي عنواناً للتجربة الجديدة. ولمرحلة الانكفاء.