وزير الخارجية ونظيره الهندي يرأسان الاجتماع الثاني للجنة الوزارية المعنية بشؤون السياسة والأمن والشؤون الثقافية والاجتماعية    جيش الاحتلال يهجر 6 مناطق في ضاحية بيروت    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    كتب و روايات في معرض الشارقة تحولت لأفلام عالمية    النقل تُوقف 3 تطبيقات عن مزاولتها لأنشطة النقل    رئيس جمهورية تشاد يصل إلى المدينة المنورة    في 100 لقاء ثنائي.. قمة الرياض للتقنية الطبية تبحث توفير فرص ذهبية للمستثمرين    الدولار يحافظ على استقراره قرب أعلى مستوى في ستة أشهر ونصف    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الكويت تدين تصريحات وزير حكومة الاحتلال بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    الأرصاد: الفرصة مهيأة لتكوّن السحب الرعدية الممطرة    الأمم المتحدة : ندعم جهود وقف إطلاق النار في فلسطين ولبنان وكافة مناطق النزاع    استشهاد 10 فلسطينيين في قصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في قطاع غزة    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنشاء المدن بين الاستمرار او انتهاء الدور . يافا ... من الغزو النابليوني الى حملة ابراهيم باشا
نشر في الحياة يوم 27 - 01 - 2007

يافا ... هي أحد الموانئ المهمة في وسط فلسطين وجنوبها، وعُرفت منذ قديم الزمان باسمها ذلك، ويعيد بعض المؤرخين الى ان اسمها اشتُقّ من يافث بن نوح، فيما تذهب مصادر اخرى الى انه مشتق من الاسم الكنعاني للمدينة، ويعني"الجميل"أو"المنظر الجميل". أقيم موقع المدينة على تلة ترتفع بين 30 و 40 متراً عن سطح البحر الأبيض المتوسط المنطقة الشرقية منه مما وفر مكاناً طبيعياً لإنشاء ميناء تجاري للمدينة، كما ان الموقع وفّر لها ومن جهاتها الثلاث امكان قيام نشاط زراعي مهم، شجع عليه وجود تربة حمراء غنية بالمكونات والرسوبيات منذ قديم الزمان وذات مياه جوفية وافرة تسربت إليها من نهري العوجا اليركون في الشمال، وإيلون في الشرق.
شهد القرن الثامن عشر قيام نشاط زراعي مهم، خصوصاً بالحمضيات في يافا، من بينها البرتقال اليافوي الشموطي. ونتيجة موقع الميناء في وسط فلسطين، فإنه اصبح ميناء الاستيراد والتصدير الرئيس للمنطقة، خصوصاً منطقة الرملة والقدس تقعان في شرق المدينة . وعبر هذا الطريق توافد الحجاج المسيحيون واليهود من أوروبا لزيارة الأماكن المقدسة في القدس وغيرها، او العودة الى بلادهم من مينائها، كذلك كان حال بعض زوار الأماكن المقدسة الإسلامية الآتين من بعض البلدان.
يبدو ان الفترة الزمنية المشار إليها لم تشهد استقراراً لافتاً لليهود في المدينة، وحتى في فلسطين كلها، كون يافا ليست من المدن الأربع: القدس، الخليل، طبريا، صفد التي تعتبر مدناً مهمة ومقدسة لدى اليهود احتمال عودة السيد المسيح الى احداها بحسب اعتقادات بعض الفرق اليهودية لذا فإنها كما ذكرنا كانت ممراً للحجاج من مسيحيين ويهود الى الأماكن المقدسة، وأن الاستقرار المسيحي واليهودي لم يزدد في يافا، إلا في فترات لاحقة على المرحلة المعنية في الكتاب.
فكيف كانت يافا في المرحلة من غزوة نابليون في عام 1799 وحتى حملة ابراهيم باشا في عام 1831؟
من ضمن سلسلة المدن الفلسطينية التي أخذت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت على عاتقها اصدارها منذ سنوات، صدر الكتاب السابق حديثاً للدكتور حسن ابراهيم سعيد المقيم في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948.
غطت فصول الكتاب الستة التطورات والوقائع التي شهدتها مدينة يافا في المرحلة المشار اليها، وما أخذت تشهده من تغيرات بسبب ما هو مركزي في المشهد العام من تاريخ الامبراطورية العثمانية في تلك المرحلة التي وُصفت فيها بأنها أصبحت"رجلاً مريضاً"أتاح للقوى الطامعة في أوروبا التدخل في شؤونها ومحاولة سلخ أجزاء من أراضيها وحواضرها، كما في غزوة نابليون للمشرق العربي، أو في الحرب الروسية - العثمانية، أو الحروب المتتابعة التي أخذت تخوضها الامبراطورية العثمانية كي تحافظ على ما كانت احتلته من أراضٍ في أوروبا، كحربها مع اليونان والقوى التي ساندتها وتحطم الأسطول العثماني، بما فيه اسطول محمد علي باشا والي مصر في معركة نفارين قرب السواحل اليونانية عام 1827، وتأثيرات ذلك في المناطق المشرقية، بما في ذلك ميناء يافا بطبيعة الحال، أو في ما يمكن تسميته بالجانب الذاتي المتعلق بحكام المناطق في بلاد الشام ومصر، أو متسلمي ميناء يافا بالذات الذين توافرت فيهم في المرحلة المعنية مزايا العزم لتطوير الميناء والارتقاء بمؤسسات المدينة واداراتها وخطوات البناء والتطوير فيها الى مصافٍ لم تبلغها من قبل، كأبي المرق وأبي نبوت.
بما ان المتصرفين أو المتسلمين على يافا المذكورين أعلاه لعبا دوراً مهماً في تطوير المدينة ومينائها، لأسباب شتى، فإنه يجدر بنا ذكر العوامل والظروف التي ساعدتهما في مهمتهما تلك، خصوصاً أن عقبات وتحديات كثيرة كانت تفرض تأثيراتها ومفاعيلها، وما"طبيعة"العصر في تلك المرحلة؟ خصوصاً أن يافا كانت تابعة كغيرها من بلاد الشام للولاة والسناجق العثمانيين الذين كانوا يقيمون، إما في دمشق، أو صيدا، أو عكا.
"طبيعة"عصر!
ومما يلفت الانتباه وبحسب ما جاء في الكتاب أن يافا كمدينة ساحلية كانت تتعرض لمجزرة ما إن تقوم من رمادها ودمارها حتى تتعرض لمجزرة لاحقة! الى أن قيض لها وصول من سعى الى اعادة إعمارها وجمع سكانها، أو استقبال مهاجرين جدد اليها. من ذلك:
1 - ان نابليون بونابرت الفرنسي الذي حاصر يافا... ثم هاجم أسوارها في 7 آذار مارس من عام 1799 ارتكب مجزرة في المدينة، ترتب على ذلك أن عكا عاصمة بلاد الشام آنذاك بقيادة أحمد باشا الجزار والتي كانت المدينة التالية بعد الاستيلاء على يافا، أمعنت في الاستعداد للمقاومة وزادت من اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحصين حصونها وأسوارها وأبراجها وحشدها بالمقاتلين. كما أن وباء الطاعون من كثرة أعداد القتلى والتواني في دفنهم في يافا - أخذ ينتشر في صفوف الجنود الفرنسيين والسكان، وظهرت آثار الوباء واضحة وواسعة أثناء حصار عكا، مما ترك أثره في الجنود الفرنسيين ومعنوياتهم، وكان أحد أسباب فشل الحصار، اضافة الى المقاومة الفاعلة التي أبدتها الحاميات العثمانية في المدينة وحواليها... وغير ذلك من عوامل أخرى.
ذكر بعض المؤرخين أنه لم يبق في مدينة يافا بعد خروج الفرنسيين منها إلا نحو 2750 نسمة من عدد سكان وجنود تجاوز عددهم 12 ألف نسمة، سقط الكثير منهم قتلى في المجزرة التي ارتكبها الفرنسيون أثناء احتلالهم للمدينة، وهناك أعداد من بينهم فروا منها قبل الحصار وأثناءه. وهذا يُظهر مدى بشاعة المجزرة التي ارتكبت في المدينة. علق نابليون نفسه على ما ارتكبه جنوده:"لم أتصور قط أن الحرب رهيبة الى هذا الحد". وأضاف:"لقد تجاوز غضب الجنود جنوده كل الحدود، وأعملوا حرابهم في الجميع من دون رحمة أو شفقة، دمرت المدينة بشقاء لا يوصف، كما يحدث عادة عند احتلال مدينة محاصرة".
وذكر ديتروا أحد ضباط غزوة نابليون"كل شيء دُمر بالنار والدم، كل الأفعال التي لا يمكن تصورها اقترفت في ذلك اليوم الحافل بالكوارث. لم يتوقف جنودنا عن القتل، بغض النظر عن سن الضحايا أو جنسهم، الا عندما تعبوا فأوقفوا المجازر".
علماً أن الفرنسيين بينهم نابليون كانوا قد اعلنوا ثورة قبل نحو عشر سنوات من الغزوة كان من مبادئها وشعاراتها الإخاء والمساواة والحرية!!
يمكن ان نطبق مقولة"الشيء بالشيء يذكر"، لذا أردنا تبيان طبع وپ"طبيعة"بعض القوى في ذلك العصر، الذي كان من سماته على ما يبدو، استباحة السكان المغلوبين وقتلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، مع ما يرافق ذلك من فظاعات وأهوال وانتهاكات وإهانات لكل ما هو إنساني. دليلنا على ذلك كما جاء في الكتاب المجازر التي ارتكبها جيش محمد أبو الذهب القائد العسكري لدى والي مصر علي بك الكبير عام 1764، بحق سكان مدينة يافا بالذات، إذ بعد حصار استمر ستين يوماً، فإن جيش أبو الذهب الذي احتل المدينة،"ذبح الرجال والنساء والأطفال، وارتكب الفظائع بحيث لم يسلم بيت من القتل او الإصابة او المهانة".
وعندما تمرد ابو الذهب على سيده علي بك،"فإنه ارسل في عام 1775 جيشاً جراراً مع مدفعية ومرتزقة أغراب بقيادة ضابط بريطاني يدعى روبنسون، ضرب حصاراً طويلاً على يافا حتى استسلمت، ومرة أخرى، وخلال زمن قصير، ارتكب الجيش مذابح بين الاهالي حتى بلغ عدد القتلى 5000 من المسلمين والنصارى، ولم يسلم من القتل حتى رجال الدين من مسلمين ومسيحيين".
وكتب المؤرخ العربي الجبرتي عن المجزرة:"ذبحوا الجميع حتى آخر واحد من دون تمييز بين وجيه سواء كان مسلماً او مسيحياً او يهودياً".
إذاً فإن وحشية المحتل لم تكن تحمل طابعاً انتقامياً من معتنقي هذا الدين او ذاك، ولا من جانب هذه القومية تجاه الاخرى ? إلا في حالات قليلة ? لقد كان الامر يحمل سمات مرحلة زمنية بأعرافها وتصرفاتها وپ"قيمها"، إضافة الى ملامح أخرى محلية تتعلق بطبيعة المعارك وظروفها ومعطياتها، والنتائج المتوخاة منها. كأن يُقصد تخويف المدن والحواضر القريبة المنوي الوصول اليها لاحقاً، او ربما - وببساطة متناهية نتيجة عدم دفع الحاكم والقائد معاشات جنوده لأشهر خلت سابقة، ليأتي الغزو والاحتلال والمجزرة حلاً لذلك، من خلال استباحة المدن وقتل سكانها والاستيلاء على ممتلكاتهم وأموالهم، وكل ما يتعلق بهم من دور وأراضٍ ومزروعات ومؤسسات!
2- ان موقع المدن، كالمدن الساحلية مثل يافا، قد تتوافر الظروف المناسبة المشجعة لتطويرها وتعميرها في مرحلة معينة، وذلك لتحقيق اغراض ومكاسب معينة في التجارة والزراعة والصناعة، كما حصل في زمني ابو المرق وابو نبوت في يافا، الا ان ظروفاً قاهرة قد تحتم تقويض إعمار المدينة وتهديمه كما حصل لميناء وحصون يافا ايضاً ? اذا ما كانت ستتحول الى أيدي غزاة جدد يمكن ان تصبح شوكة عصية بين ايديهم ضد حكامها السابقين. كما حصل من دمار ليافا زمن الصليبيين والفاطميين والايوبيين والمماليك ثم الفرنسيين وغيرهم.
3- اذا ما كان الحكام والسناجق والولاة والمتسلمون يكسبون على الصعيد الشخصي من وراء تطوير المدن وتعميرها وتشجيع تجارتها وزيادة الاسكان فيها، خصوصاً في زمن كانت الوظائف العامة تشرى وتباع على نطاق واسع، جاء في الكتاب"في تلك الايام كانت المناصب تُباع في العاصمة العثمانية لمن يدفع اكثر". مع ذلك فإن اهدافاً اخرى غير معلنة كانت تحرك اولئك الولاة والحكام للقيام بمآثر التطوير والتعمير، من بينها فرض انفسهم كقوة كفوءة في الادارة والحرب، ومحاولة استغلال ذلك للاستقلال، او فرض شبه استقلال عن الدولة العثمانية، كما في حالتي متسلمي يافا على سبيل المثال أبي المرق وأبي نبوت. فإذا ما كانت يافا كموقع وميناء قد لفتت نظر يوسف ضياء باشا، الصدر الأعظم العثماني رئيس الوزراء الذي جاء على رأس الحملة العثمانية لمحاربة نابليون، وأمر بتحصينها وتعميرها خوفاً من غزوات أخرى لاحقة، فإن المتسلمين السابقين زادا وبالغا في الإعمار والتحصين لتحقيق اغراض خاصة تهدف الى الاستقلال، او تحقيق شبه استقلال عن السلطة المركزية في اسطنبول، لأن محاولات علي بك الكبير ومحمد علي باشا في مصر، وأحمد باشا الجزار في عكا لفرض مثل ذلك الواقع لم تغب عن بال وخطط الولاة والمتسلمين في يافا ايضاً.
لذلك، فإن ابا المرق على رغم انه كان صهراً للصدر الأعظم يوسف ضياء باشا، وابا نبوت كانا ينويان إقامة ولاية في يافا ومنطقتها تكون لها المواصفات نفسها لولايات مصر والشام وغيرهما. وبسبب ذلك السعي الطموح فإنهما دفعا ثمنه طرداً وإقالة بعد معارك ومناورات ودسائس عدة... مما كانا قد مهدا لإعلانه. لأن الأمر لم يكن يخفى عن اعين وعيون الولاة الاساسيين، او السلطة المركزية في اسطنبول.
4- إذا ما كان يقال ان الموانئ ومدن السواحل ما هي إلا مثال من مدن تحمل مواصفات المدينة"الكوزومبوليتية"، أي التي تجمع ناساً من اعراق وأديان وأصول مختلفة كذلك كانت الامبراطورية العثمانية -، فإن يافا في تلك المرحلة كانت هي المدينة النموذج لهذا الأمر. إذ بالرجوع الى سجلات المحكمة الشرعية في يافا في تلك الحقبة هي مصدر اساس للكتاب لإنجاز كتابه عن يافا، ادارة ومجتمعاً واقتصاداً فإنه وجد ان سكان يافا الأصليين كانوا قلة من بين سكان مهاجرين علينا ألا ننسى النكبات التي تلاحقت في يافا من بقية المدن والحواضر الفلسطينية الاخرى، يلي ذلك سكان من مصر وبلاد الشام والعراق، وبلدان المغرب العربي، ثم من بقية الولايات العثمانية، من بينها من كان يعتنق الديانة المسيحية أو اليهودية في اوروبا كاليونان وأرمينيا والصرب الخ أو من بلاد القفقاس تعود أصول بعض الولاة والمتصرفين والمتسلمين الى تلك البلدان، كما في حالتي محمد آغا أبو نبوت وسليمان باشا والي بلاد الشام اذ تعود اصولهما الى جورجيا بلاد الكرج كما كان يقال لها من قبل وغيرهما.
ذكر الكاتب في مجال سكان يافا وفي ازدهارها في الفترة المعنية:"إن مكانة يافا الخاصة، كميناء يخدم الحجاج، وكمركز تجاري يربط بين ثلاث قارات، وكمدينة ذات خلفية زراعية واسعة، علاوة على سياسة حكامها أبو المرق وأبو نبوت الرامية الى جعلها مركزاً ادارياً وتجارياً، أمور أدت كلها الى تطورها وازدهارها، والى اجتذاب مهاجرين اليها من مختلف المناطق، وفي الواقع من انحاء الامبراطورية العثمانية كافة".
ما فعله عبدالله باشا
بعد وفاة سليمان باشا صديق ابو نبوت والي بلاد الشام عام 1819، تم تعيين عبدالله باشا والياً على تلك الولاية واتخذ من عكا عاصمة لها. وبما ان الوالي الجديد كان في ريعان شبابه 22سنة ومتشككاً في كل من هم حوله، لذا فإنه أخذ يتخبط في سياسته وتوجهاته، مما أوقعه في مشاكل عدة، تارة مع السلطة المركزية، وأخرى مع سناجق ومتسلمي ولايته أكثر من تغييرهم وطردهم وتبديلهم بل وخاض حروباً مع بعضهم، ثم ساءت علاقته مع حاكم مصر الذي كان ساعده ووقف الى جانبه من قبل، مع انه كان يضع الخطط لاحتلال ولاية الشام على مهل، الى ان جاءت الفرصة المناسبة بعد أن أخذ يتوافد على ولاية بلاد الشام بعض الاهالي المصريين الذين تضرروا من سياسة الإصلاح الزراعي التي أخذ يطبقها محمد علي باشا في ولايته، وكي يتجنبوا المشاركة في التجنيد بالجيش أو القيام بأعمال السخرة. وقد بلغ عددهم نحو ستة آلاف نسمة، ولما طلب والي مصر من عبدالله باشا اعادتهم لما يمكن أن يلحقوه من أضرار بالأمن والاقتصاد وتشجيع آخرين على الفرار، فإن عبدالله باشا رفض إعادتهم وأعلن:"اذا كنت تريد ان تعيدهم الى مصر فعليك أن تأتي بنفسك لتأخذهم".
أثار هذا الرد غضب محمد علي باشا، لكنه اعتبره احدى ذرائع الغزو، فكتب لعبدالله باشا:"سآتي لأخذ الفلاحين الستة آلاف وواحد أيضاً"وكان المقصود بالواحد عبدالله باشا نفسه.
وفعلاً فإن جيش الولاية المصرية تدفق على فلسطين بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي في نهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر من عام 1831. وبدأت المدن تسقط واحدة إثر اخرى، تلتها مدن بلاد الشام الأخرى وصولاً الى تخوم تركيا الحالية، واستسلمت حامية مدينة عكا بعد حصار استمر ستة أشهر. وكان من الطبيعي وفي ظل ذلك الاضطراب والحروب والتمردات وعدم الاستقرار أن يتوقف ازدهار يافا. إذ ذكر الكاتب:"لكن ظاهرة البناء والتطور والازدهار توقفت في عهد عبدالله باشا، إذ انتهج سياسة أوصلته الى نزاعات وحروب مع السلطة المركزية ومع الولاة في سورية، وفي النهاية مع والي مصر ايضاً الذي قضى على حكمه. وبسبب هذه السياسة منيت يافا بفترة من عدم الاستقرار، سواء على الصعيد الأمني، اذ تعرضت لهجومات وحصار، او على الصعيد الاداري الذي وجد تعبيراً عنه في عدم ثقة الوالي بالمتسلمين الذين كان يعيّنهم ثم يعزلهم، بسبب الاوضاع التي جاءت نتيجة سياسته المنتهجة، وبسبب تكرار تعيين المتسلمين وعزلهم لم يستطع أحد منهم ان يعمل على تطوير المدينة يافا وإعمارها، علاوة على عدم الاستقرار الأمني وانعدام الحوافز والاهتمام".
هذا ويمكن تثبيت بعض المؤشرات والدلالات التي وردت في نص الكتاب، والتي بُنيت عليها مترتبات مهمة لاحقاً، من بينها:
1 لقد تم فرض الوحدة بين بلاد الشام وبلاد النيل بالقوة من جانب محمد علي باشا وابنه ابراهيم، وذلك لدواع شخصية هذا صحيح لكنها مع ذلك لم تخلُ من أبعاد استراتيجية مهمة. في حين ان دأب بعض الدول الأوروبية كان انتزاع ما يمكن انتزاعه من أراض وبلدان كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، ودأبها كان التفتيت ومنع قيام أية قوة فاعلة داخل الإمبراطورية، خصوصاً ان سفراءها وقناصلها كانوا يتدخلون في امور وقضايا عدة، كما انها وهي الدول الصناعية الناشئة كان يهمها تصريف انتاج مصانعها في أي بلد تستطيع الوصول اليه.
2 استغلت بعض البلدان الاوروبية الضعف الذي أخذ يسم السلطة المركزية العثمانية في الفترة الاخيرة من وجودها، ولذلك فإنها أخذت تكثر من تدخلاتها ومؤامراتها وتفرض بعض شروطها، واستغلت بعض التناقضات والتعارضات بين فئات من السكان والقوى المحلية في انحاء الامبراطورية لتفرض نفسها حامية لهذا الفريق او ذاك، او لهذه الطائفة او تلك كما حصل في جبل لبنان في ستينات القرن التاسع عشر ، او ادعاء حماية السلطة المركزية بوجه ولاة الاقاليم كما في حالة محمد علي باشا وابنه ابراهيم، اللذين كادت قواتهما ان تصل الى اسطنبول نفسها ففرض عليها الأوروبيون وبالقوة العسكرية العودة الى بلاد النيل وتوريثها كمُلك لذرية محمد علي مصر والسودان.
ج اتخذ محمد علي باشا وبعض ولاة بلاد الشام كحالتي ابي المرق وأبي نبوت في يافا خطوات مهمة لإنشاء صناعات كان يمكنها ان تنافس الصناعات الاوروبية، كصناعة الصابون في يافا وبلاد الشام، ودباغة الجلود وصناعة النسيج وتوضيب الحمضيات البرتقال اليافوي المشهور وتصديرها الى بلدان عدة، وصناعة القطن والحرير والأنسجة الاخرى، وصولاً الى صناعة الاسلحة في مصر، وإرسال بعثات الدارسين لعلوم عدة الى بعض البلدان الاوروبية. كما ان محاولات لإقامة إصلاح زراعي في مصر اخذت تبزر وتسود منذ ذلك الزمان المبكر، وهذا ما كانت بعض الدول الأوروبية الطامعة تعارضه وتقف في وجهه.
د يمكن اعتبار محاولات محمد علي باشا وابنه ابراهيم لرفد جيش بلاد النيل وتجنيد أفراد من ابناء البلد وإرسالهم في بعثات لدراسة العلوم العسكرية من المحاولات المبكرة لإعادة الاعتبار الى بناء جيش وطني، عناصره الاساسية وكثرته الكاثرة من ابناء البلد. وهذا مؤشر وخطوات أخذت تثمر وتنتشر وتسود لاحقاً على رغم كون محمد علي وابنه من صلب عائلة ألبانية، ومرورهما في دوائر ما يسمى - المماليك والإنكشارية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.