يجر الفتى الملثم إطاراً مطاطياً إلى وسط الطريق. يضرم فيه النار، فيشتعل الإطار المطلي بالبنزين بسرعة فائقة. يتبع الفتى ملثمون آخرون، فتنقطع الطريق وتحجب غمامة سوداء كثيفة سماء المكان. يعلو تصفيق حاد مترافقاً مع صيحات التمجيد بپ"انتصار"تحقق للتو. الساعة الآن تجاوزت السادسة صباحاً. تخترق عبارة:"يا أشرف الناس: انتم مدعوون للتجمع أمام محطة الضناوي وحي اللجا ومارالياس والروشة..."جدران المنزل الواقع بين شارع خندق الغميق ووزارة المالية في بشارة الخوري. ومع انتهاء الدعوة تكون غمامة سوداء كثيفة غطت المكان. يربط شارع المالية والشارع المقابل له منطقة بشارة الخوري الممتدة من الضاحية الجنوبية، بوسط بيروت حيث اعتصام المعارضة المفتوح. تقطع الإطارات المشتعلة كل الطرق المؤدية إلى الوسط، على مرأى من عناصر الجيش اللبناني المتمركزين قرب دباباتهم. ومع حلول التاسعة يكون الشارع ساحة خالية لشبان انصرفوا إلى أسطح البنايات المجاورة، ليرموا ما عليها من حجارة إلى الشارع، ويضرموا النار في حدائق البنايات المهجورة، قبل أن يدب بينهم الخلاف حول ما إذا سيضرموا النار في وزارة المالية أم يكتفوا بإشعال الإطارات أمامها. يقود شارع المالية إلى تقاطع بشارة الخوري الذي صار يشبه تقاطع مار مخايل خلال حرب تموز. تشكل شحنات الردم المنقول من الضاحية سواتر ركامية خلف الإطارات المشتعلة، فتسد كل منافذ بشارة الخوري، كما ستسد الكثير من شوارع بيروت. على جوانب الطرق المتصلة في التقاطع، يتبادل شبان المعارضة الأحاديث عن قدرة الحكومة على الاحتمال. ويعصر أحدهم هاتفه النقال، بينما يحاول إقناع المتصل بضرورة إحضار المزيد من الإطارات لأن الذخيرة شارفت على النفاذ. مناطق البسطة التحتا والفوقا والجسر الرابط بينهما، وصولاً إلى الضناوي وكركول الدروز ومارالياس تعيش حظر تجول مدني. لا اثر فيها إلا لعسكريين يراقبون ملثمين ومراهقين يسكبون البنزين على الإطارات قبل إحراقها. في المناطق المذكورة، كما في حي اللجا لا يمكن الفرار من شبان اغتنموا خلو الساحة، فنصبوا أنفسهم على حواجز سائلين عن هوية المتجول إذا كان من غير مضرمي النيران وحاملي العصي والجنازير، ويرفضون التعريف عن هويتهم"لأسباب أمنية". في تلك المناطق تعلو وتيرة الأحاديث عن مشكلات"يفتعلها أنصار"المستقبل"وپ"الحزب التقدمي الاشتراكي"، وتقابل بمسيرات ينطلق بها حاملو العصي على الدراجات النارية إلى المناطق المذكورة. تغيب في هذا الشارع شحنات الردم، وتحل محلها الحجارة الملونة والمقتلعة من الرصيف، والى جانبها، لافتة:"الطريق مقطوعة، للمراجعة: السلطة المستأثرة"وشبان يشربون النارجيلة. وهنا ايضا ترتفع هتافات:"بري. نجادي. بشار. وأبو هادي"وپ"يا الله ويا جبار، احمي لنا الدكتور بشار". شارع مار الياس الرئيسي يشكل مصباً لأحياء فرعية كثيرة، سدت منافذها بإطارات تولى الملثمون تبديلها مرة كل ساعتين، حتى ولو قام الأمنيون بإزالتها. في نهاية الشارع تقع ثكنة الحلو لقوى الأمن الداخلي، وأمامها الحاجز المشتعل الأول. قريباً من الحاجز كانت تعلق صورة للرئيس فؤاد السنيورة وتحتها عبارة:"الحبيب الغالي"، وقعت أمس، ضحية لپ"حرية تعبير"المتظاهرين. يتصل شارع مار الياس بمنطقة كورنيش المزرعة التي شهدت توترات أمنية متكررة بين أبناء المنطقة وقاطعي الطرق. ولم تفلح التعزيزات الأمنية المشددة في فض الاشتباكات التي تكررت بعد نزول الشبان الموالين لپ"تيار المستقبل"إلى الشارع، طالبين من عناصر الجيش فتح الطريق بدل أن يقوموا بذلك بأنفسهم. في منطقة الكورنيش وقع عدد لا بأس به من الضحايا بفعل تراشق الحجارة بين الموالين والمعارضين. برج أبي حيدر أيضاً شهد توترات كثيرة، تلت إحراق المعتصمين صورة عملاقة للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتعرضهم لصاحب أحد محلات السمانة بسبب تعليقه صورة مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني. الطريق الجديدة شارع آخر له خصوصية فائقة، أصر أهله على أن يعيشوا أمس، يوماً من أيامهم العادية، مجاهرين بولائهم لرئيس تيار"المستقبل"النائب سعد الحريري وتمسكهم بحكومة الرئيس السنيورة. خصوصية منطقة"الطريق الجديدة"اقتضت تعزيزات أمنية مكثفة على مداخلها لمنع وصول المعتصمين الذين أدى تسرب بعضهم الى الداخل الى تحطيم عدد كبير من السيارات، بسبب تراشق الحجارة المتبادل. على مقربة من وسط بيروت ترتفع السنة اللهب من الإطارات التي قطعت جسر فؤاد شهاب منذ الفجر. إلى جانب الإطارات المحترقة تشكل مستوعبات النفايات المحروقة والبقايا وأكوام الردم سواتر تقطع الجسر. على الضفة المقابلة يفترش أنصار المعارضة الأرض، ومن خلفهم تبث مكبرات الصوت:"إيدي وإيدك سوا لنحمي لبنان... سوا منخلي الوطن يصبح جنة عدن"، وتحيط بالجميع غمامة سوداء كثيفة تحجب الرؤية.