تولى رئاسة الولاياتالمتحدة الأميركية منذ إعلان استقلالها في عام 1776 ثلاثة وأربعون رئيساً. أولهم جورج واشنطن وآخرهم الرئيس الحالي الرئيس الثالث والأربعون جورج دبليو بوش. ومنذ نهاية ولاية الرئيس جورج واشنطن وبقاء خليفتيه جون ادامز وتوماس جيفرسون على قيد الحياة لبضع عشرة سنة بعد نهاية فترة رئاستهما، تخصص عدد من المؤرخين في تقويم"الرؤساء السابقين". أي تقويم أعمال الرؤساء وتصرفاتهم العامة بعد نهاية فترة رئاستهم. ومنذ نهاية رئاسة الرئيس هاري ترومان في عام 1952، كتب المؤرخون بضعة عشر كتاباً عن أعمال الرؤساء السابقين في فترة بقائهم أحياء بعد نهاية فترة ولايتهم. ويوجد في الولاياتالمتحدة منذ نحو نصف قرن مؤرخون متخصصون فقط في"تاريخ"الرؤساء، خلال فترة رئاستهم وقبلها، وبعدها لمن يبقى حياً لبضع سنوات أو أكثر. ومن شبه المتفق عليه بين مؤرخي الرؤساء، أن الرئيس التاسع والثلاثين - الرئيس جيمي كارتر - يكاد يكون أفضل رئيس أميركي في الفترة التي أتت بعد نهاية رئاسته، مقارنة ببقية الرؤساء السابقين في سنوات ما بعد الرئاسة. والأسباب كثيرة، أهمها انه كتب ما يزيد على ثلاثين كتاباً لها أهمية خاصة، بسبب مكانة المؤلف وتجربته وصلاته المستمرة بمراكز الفكر والقرار. وإضافة إلى أعماله الأخرى التي تُحمد له، كاهتمامه ببناء المساكن للفقراء وضحايا المصائب الطبيعية والحروب، تحت لواء ما سمّاه"المنازل الإنسانية"، فقد يكون أهم أعماله بالنسبة إلينا نحن العرب كتابه الأخير"بلستاين بيس نت ابارتيد"، أو"السلام لفلسطين لا الحجر". ومع أن كلمة"ابارتيد"تعني العزل العنصري بين البيض الحاكمين والسود المحكومين في جنوب أفريقيا، فإن"الأبارتيد"المقصود هنا ليس عنصرياً، لأن كل سكان فلسطين من عرب ويهود ينحدرون من العنصر السامي، وإنما المقصود هو السور الحاجز الذي يشبه سور برلين الذي شيده الشيوعيون في ألمانياالشرقية. ومنذ نشر هذا الكتاب في آخر أسبوع من تشرين الثاني نوفمبر 2006، وهو موضوع بحث وتعليق وسائل الإعلام الأميركية، من الصحف الوطنية الكبرى إلى الإذاعات وشبكات التلفزيون. وبالطبع حاولت"إيباك"وحلفاؤها تجاهل الكتاب، وحينما تعذّر تجاهله بسبب مكانة مؤلفه ومعرفته بالموضوع وتجربته، وبسبب انه كان ضابطاً مهندساً نووياً في الغواصات الأميركية لفترة زادت على بضع عشرة سنة، فلا يمكن المزايدة عليه باسم مصالح أميركا الوطنية الكبرى، فقد سمّاه الليكوديون الأميركيون من مسيحيين ويهود ب"الكتاب المثير للجدل". ووصف كتاب الرئيس كارتر ب"المثير للجدل"صحيح. فكل جديد مفيد يُقال عنه"مثير للجدل". وهل وُجد في أي مكان أو زمان قائد حقيقي في أي مجال من مجالات القيادة، لم يسمه مناوئوه بشخص"مثير للجدل". إلا أن وصف هذا الكتاب تحديداً ب"المثير للجدل"هو ما تمناه الرئيس كارتر. فحينما سأله أهم صحافي تلفزيوني أميركي توم رسرت، مقدم برنامج"مقابلة صحافية"في شبكة"ان بي سي": لماذا يثير كتابه عن مأساة الفلسطينيين كل هذا الجدل؟ أجابه الرئيس كارتر:"الكتاب فعلاً مثير للجدل، لأن غالبية الأميركيين لا يعرفون ما يكفي عن معاناة الفلسطينيين. ومع ان وسائل الإعلام الأميركية الكبرى كشبكات التلفزيون الأربع الكبرى، والصحف القيادية ك"واشنطن بوست"و"نيويورك تايمز"وأمثالها"مستقلة"ومهنية، وتستطيع من دون ان تخشى لومة لائم مناقشة معاناة الفلسطينيين وسوء أحوالهم المعيشية، فإن هذا الموضوع لم يكن من اهتماماتها في الماضي، لأنها في نهاية المطاف مؤسسات تجارية تبحث عمّا يهم غالبية الأميركيين، وقبل احتلال صدام للكويت واحتلال أميركا للعراق ما كان الشأن الفلسطيني - الإسرائيلي يهم الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين. وهذا هو السبب الذي دعاني إلى كتابة هذا الكتاب. ووجودي معك اليوم من خلال هذه الوسيلة الإعلامية الكبرى، وأمثالها في الأيام المقبلة، سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى فهم أفضل لهذه المأساة الإنسانية". والرئيس كارتر رجل متدين، ولا يزال يقدم"دروساً"من الإنجيل في صباح كل أحد في الكنيسة المجاورة لمنزله في ريف ولاية جورجيا، ولذلك يصعب على الوُعّاظ التلفزيونيين من قادة الصحوة المسيحية الحديثة في الجنوب الشرقي من أميركا المزايدة عليه باسم الصحوة المسيحية. أما نشطاء الصحوة الليكودية فلم يثقوا قط بالرئيس كارتر، وقد وضعت مجموعة منهم إعلاناً مدفوعاً من خلال الشبكة العنكبوتية، مطالبين بالدعم لحذف اسم الرئيس جيمي كارتر من قائمة الرؤساء الأميركيين السابقين. وفي الوقت الذي حقق هذا الكتاب المهم كسباً معنوياً مهماً للعرب والمسلمين كافة، نجد انه يُعقد مؤتمر في طهران لمحاولة نفي المحرقة النازية الهولوكوست. ومثل هذا المؤتمر الذي حضره ديفيد دوك الذي كان أميراً لعصابة"الكلو - كلاكس - كلان"العنصرية النازية، التي تؤمن بتفوق العرق الآري على بقية عباد الله، يخدم مصالح"إيباك"وأشد أعداء العرب تطرفاً، لأن مثل هذه الأعمال تؤذي العرب والمسلمين عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وتوحي للعالم بأن المسلمين يدافعون عن النازيين الفاشستيين الظلاميين، الذين كانوا يؤمنون بإخلاص بأن جميع"الأعراق"البشرية باستثناء العرق"الآري"لا يستحقون الحياة. إن موضوع المحرقة النازية موضوع مُوثّق ومُثبت في وثائق وأرشيف النظام النازي البائد، وفي أرشيف الأممالمتحدة، بل وفي أرشيف جميع الدول التي كانت لها بألمانيا النازية صلة عداوة كموسكو ولندن وباريس وواشنطن، أو صلة صداقة كطوكيو وروما. وإنكار"الهولوكوست"يضر الفلسطينيين وينفع إسرائيل، كما سيأتي بيانه في هذا الحيز- إن شاء الله- في يوم الثلثاء المقبل. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.