في تآزر لافت بين التكنولوجيا الرقمية والفن السابع، أعلن مهرجان "صن دانس"، الذي تستضيفه بلدة "بارك سيتي" بولاية يوتاه الاميركية بين يومي 18 و28 كانون الثاني يناير الجاري، عن مبادرة رقمية - فنية مع خليوي "آي - بود فون" iPod Phone. تقضي المبادرة بوضع الأفلام الخليوية المشاركة في مهرجان "صن دانس"، والتي يزيد عددها على 40 شريطاً، على المخزن الرقمي التابع لخليوي"آي- بود فون"على شبكة الانترنت. وتمكن هذه الخطوة جمهور الخليوي والانترنت من الحصول على تلك الأفلام التي تُصنع بواسطة الكاميرا الرقمية في الهواتف الخليوية. ويستطيع الجمهور الحصول على تلك الأشرطة مقابل دولارين للفيلم. وفي المقابل، أعلن منظمو المهرجان، عبر موقعهم على الانترنت، أنهم يسعون الى الإستفادة من انتشار جهاز"آي - بود فون"لنشر مفهوم"الفيلم المستقل"Independent Film، الذي يعتبر أساساً في ظهور"صن دانس فيستيفال". فن وتكنولوجيا رقمية تستدعي تلك المبادرة، التي جاءت بعد ربع قرن من انطلاقة المهرجان السينمائي ذي الملامح المميزة، الكثير من التفكير"وخصوصاً لجهة العلاقة التي تزداد تشابكاً بين التكنولوجيا الرقمية في المعلوماتية والاتصالات"والفن السابع. واستباقاً، ثمة أفق مرتسم فعلياً لتحوّل عميق يصنع حالياً نوعاً جديداً من الفن، يمكن تسميته"الترفيه الرقمي الاتصالي". كما تبدو قبضة الكومبيوتر والانترنت وكأنها تشتد في الامساك بمقاليد الفن السابع، الذي صار أيضاً ساحة لتحقيق الكثير من المفاهيم العميقة للفن الرقمي. وقبل أن نعيد تأمل مبادرة"صن دانس"، يجدر القول إن عالم الاتصالات بات ينظر الى الخليوي باعتباره"الشاشة الرابعة"Fourth Screen. برز هذا المصطلح همساً في العام 2004. وتكرّست التسمية عندما نقلت الشركات العملاقة للخليوي مؤتمرها الدولي السنوي في العام 2006 الى... مدينة"كان"الفرنسية مؤكدة انها تعمدت هذا الاختيار لتكريس البُعد الترفيهي في شاشة الخليوي. وفي"كان"، التي تستضيف سنوياً أحد أشهر مهرجانات السينما في العالم، تكرّست تسمية الخليوي"شاشة رابعة"! ثمة تقاطع آخر في السياق عينه، ففي تلك السنة أيضاً، كرّس مهرجان"صن دانس"أشرطة الخليوي باعتبارها نوعاً ينتمي الى الفن السابع، عندما خصص جائزة لتلك الأفلام. وزيادة في التقاطع عينه، يجدر التنبّه الى أن الكثير من اختصاصيي الترفيه البصري يشيرون الى جوائز"صن دانس"وكأنها أوسكار من نوع ما، خصوصاً مع الميل المتزايد لهذا المهرجان لملاقاة الفن الرقمي وأدواته وشبكاته! ويمكن المضي خطوة أبعد، في نسج العلاقة المتداخلة بين التكنولوجيا والفن السابع، بالقول إن المهرجان الراهن يعتز بأن موقعه الالكتروني، بعد مرور ربع قرن على انطلاقته، نال جائزة"ويبي"Webby التي تصف نفسها بأنها"أوسكار الانترنت والفن الرقمي". وفي سياق مواز، يلفت أن المبادرة جاءت بعد أيام من الاعلان عن هاتف"آي- بود فون"، الذي اكتسب بسرعة اسمه المختصر"آي فون"iPhone"الذي جاء نتيجة تحوّل جهاز لتشغيل الموسيقى الرقمية هو"آي بود" مع خصائص الاتصالات في الخليوي، إضافة الى الكثير من مواصفات المساعد الرقمي الشخصي، وكذلك دُمج مع مزايا أداة الألعاب الالكترونية ومُشغل مواد الميلتي ميديا بما فيها أشرطة الخليوي! ولم يتردد ستيف جوبز، مدير شركة"آبل"التي تُراهن على"آي فون"، في وصف الجهاز بأنه"مجموعة من الأجهزة". ووصف الهدف من اطلاقه بأنه"اقتطاع"جمهور الترفيه والاتصالات، من الجمهور العام للكومبيوتر والانترنت! لنتذكر أيضاً أنه جهاز صنع نوعاً خاصاً من شبكات الترفيه البصري الرقمي، وبالاحرى ترفيه"الميلتي ميديا"، عُرف باسم"بود كاستنغ"Pod Casting. ولنضف ضربة أُخرى في تلك الشبكة المُعقّدة بالقول إن المهرجان الراهن، يفتتح بفيلم سياسي من نوع جديد، ينتمي الى الفن الرقمي وكذلك للخليوي بأكثر من المفهوم التقليدي للسينما. اذ يفتتح مهرجان"صن دانس"بشريط لبريت مورغان عنوانه"شيكاغو 10"، وقد صنعه مورغان، وهو مخرج سينمائي مهتم بالسينما الوثائقية ومن هواة الكومبيوتر، بأسلوب التحريك بالكومبيوتر Computer Animation ، المعتمد على التقنيات الافتراضية، بالطريقة التي تصنع بها أفلام تحريكية مثل"قصة سمكة قرش"و"شريك - الغول بجزءيه"و"نيمو"و"كارز سيارات"و"انكريديبالز القاهرون"و"فلاشد أواي ذهب في البالوعة"و"مدغشقر"وغيرها. ويوصف الفيلم الجديد بأنه"وثائقي سياسي"، أي انه يُشبه ما صنعه مايكل مور في أفلام مثل"بولنغ من أجل كولمباين"و"فهرنهايت 9/11"وغيرهما. و"شيكاغو 10"فيلم عن فضيحة التجسس في"ووترغيت"في العام 1968 . ويُشارك في الفيلم ممثلون معروفون مثل نيك نولته وروي شنايدر وجيفري رايت وليف شرايبر وهانك أزاريا. ويعتبر شريط"شيكاغو 10"افتتاحاً لنوع جديد من الأشرطة: الفيلم الوثائقي - السياسي - التحريكي Computer Animated Political Documentary. ويرتكز على إمكانية تحويل معطيات السياسة الى صور انطباعية من الفن الرقمي. وبقول البعض، إنه نوع سينمائي جديد كلياً ولد من تشبع الفن السابع بالفن الرقمي! الأخطبوط الرقمي الارجح ان للخيارات التقنية في مهرجان"صن دانس"أسبابها العميقة التي تنبع من قلب الفن السابع. ولا يتسع المقال لتفصيل تلك الأسباب. لكن مراجعة تاريخ المهرجان على مدار ربع قرن توحي بأن تلك الخيارات تبلورت بصورة تدريجية، انطلاقاً من الفكرة الأساسية لمهرجان"صن دانس": صنع مساحة فنية للفيلم المستقل. إذ يعتبر منظمو المهرجان أنهم يصنعون مساحة بديلة من الأفلام التي تنتجها الصناعة الهائلة للأفلام في أميركا، والتي تعتبر هوليوود قبلتها ومصنّعها الأكبر والأهم، والتي تعبر عن نفسها بالمهرجانات المعروفة مثل حفل"الأوسكار". يميل صُنّاع"صن دانس"للتعريف عن انفسهم باعتبارهم يمثلون نوعاً من ذائقة موازية، أو بديلة. وتدريجاً، سار المهرجان نحو تبني الوسيط الرقمي، وخصوصاً شبكة الانترنت، فصار حضوره على الشبكة الالكترونية هو الشكل الفني الأساس لوصوله الى أعين الجمهور. ولا يتردد الموقع الالكتروني للمهرجان في القول إنه وصل في ربع قرن، الى مرحلة"مهرجان أون لاين"، فكرّس علاقة جديدة مع الجمهور المتلقي، المتفاعل عبر الشبكة الالكترونية. كما يُعتبر تبنيه أفلام الخليوي، التي يصنعها الجمهور كنوع فني، مؤشراً الى الذهاب عميقاً في تغيير العلاقة بين الأشرطة المرئية - المسموعة والجمهور المتلقي. وفي هذا السياق، أعلن الممثل الاميركي المخضرم روبرت ردفورد في الخريف الفائت، عن صنع سلسلة من أفلام الخليوي القصيرة، بالتآزر مع مجموعة من أصحاب"المحارف"الرقمية في أوروبا. والمعلوم ان ردفورد هو مؤسس مهرجان"صن دانس"وقطبه المحرك وربما أيضاً صاحب أهم الافكار التجديدية فيه. ولذا، لا يعود مستغرباً ألا تتردد احدى الصحف الالكترونية للشباب الاميركي، هي"وايرد نيوز"، في وصف الوضع الراهن ل"صن دانس"بأنه"المهرجان الذي يصل اليك بدل أن تصل اليه". وفي مثال آخر، بادر"صن دانس"الى اعتماد تقنية البث اللاسلكي الواسع"واي ماكس"Wi Mx لتكون أول تجربة لبث مواد بصرية - مسموعة. ومع كثافة استخدام الانترنت، والاتصال مع شبكات الخليوي، واستعمال شبكات"بود كاستنغ"، والاستفادة من تقنيات البث الواسع بموجات الراديو"واي ماكس"، بات مهرجان"صن دانس"يشبه أخطبوطاً رقمياً هائل الأذرع. وثمة خيط من التفاعلية مع الجمهور الواسع، ومن الحضور القوي للمشاهد - المُشارك الذي يصنع الفن ولا يكتفي بتلقيه - وغيرها من الأمور التي تحتاج الى نقاشات أوسع. يُعطي ما سبق ومضات عن المضامين التي تحملها التقنية، وعلاقتها مع خيارات البشر وخيالهم وابداعهم ومجتمعاتهم وصناعتهم وغيرها من الأشياء التي تصنع حياتهم اليومية. ليست تلك الأشياء هينة ولا سطحية الأثر"فقد لاحظ ابن خلدون، منذ القرن الرابع عشر، أن ما يتخذه الناس من وسائل في معاشهم يتصل بأحوال المُلك والسياسة والدول ومصائر الأُمم.