يطمئن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد شعبه الى ان العضلات الإسرائيلية لن تجرؤ على مقاومة عين الجمهورية الإسلامية وضرب منشآتها النووية. وعلى رغم ان الرئيس الأميركي جورج بوش ووزير دفاعه الجديد روبرت غيتس أعطيا إشارات متناقضة حول الخيار العسكري ضد إيران واستبعاده في آن، ما زال نجاد يذكّر باطمئنان صدام حسين الى صلابته حين كان يتحدى الأميركيين غزو العراق، ليريهم أي ثمن يدفعون. والفارق بين نجاد وصدام، مما يكره الرئيس الإيراني سماعه، هو ان الرئيس العراقي السابق الذي طوت المشنقة معه صفحات أسرار كثيرة، كان على رغم اقتناعه بأن سطوته وحدها كفيلة بإثارة الرعب في قلوب الأميركيين ! يكرر عرضه حواراً معهم بلا شروط. أما الرئيس الفقير الذي يفضل المبارزة بالوقود النووي، دفاعاً عن"كرامة الإيرانيين وحقوقهم"، فما زال يتوقع ان تصغي واشنطن الى نصائحه، فتبدل سلوكها لبدء المفاوضات معه! ولعل نجاد يذكر ان لعب صدام على أوتار تجييش عواطف الفلسطينيين والمسلمين عموماً، لم ينفع العراق حين جاءت ساعة الاجتياح، كما لم ينقذه العناد الروسي في رفض الانصياع الى التحالف الأميركي. يمكن الرئيس الإيراني الآن ان يكرر"واقعة"حماقة ارتكبتها قيادة"البعث"العراقي حين تخيّلت حرب اساطيل بين موسكووواشنطن، بعدما احتسبت المسافة بين دجلة والمياه الدافئة. يمكن نجاد ان يتكئ على رسالتي تحدٍ وجهتهما روسيا الى البيت الأبيض خلال 24 ساعة: إعلان رسمي بإنجاز تسليح ايران بمنظومة للدفاع الصاروخي، حماية لمنشآتها النووية، وعدم تفهم الكرملين مبررات إبقاء العقوبات المالية الأميركية على كوريا الشمالية. وبإمكان طهران ايضاً ان تراهن على حماسة"الحرس الثوري"ل"إزعاج"الأسطول الأميركي في مياه الخليج، أو تحديه الانجرار الى حرب اخرى، فيما بوش غارق في الوحل العراقي. لكن الخطأ القاتل ان تمعن القيادة الإيرانية في تحدٍ تراه لن يخرج عن سقفه اللفظي، وكذلك في توجيه إشارات متضاربة الى الغرب ودول المنطقة، ليس أقلها عرض التعاون الإقليمي وطلب تهدئة التوتر، فيما البيت الأبيض يرسل حاملتي طائرات ويعد لنشر صواريخ"باتريوت". ترد طهران باستقبال مفتشين لوكالة الطاقة الدولية، بينما نجاد يحرص على ألا يضيّع فرصة لاستفزاز بوش. وحين يصر الأخير على انه لن يخرج مهزوماً من العراق،"تنصحه"طهران باستعجال الانسحاب. لا جديد في تعداد الأوراق التي تلوّح بها في"المواجهة الكبرى"مع الولاياتالمتحدة، ولا تخطئ الجمهورية الإسلامية حين تتلمس الحرص الأميركي على الإمساك بعصا الديبلوماسية الغليظة العقوبات، أو تستبعد هجوماً بقنابل نووية وإن"استعدت"له. لكن المعضلة التي تطوّق المنطقة من الخليج الى الشرق الأوسط، أن ما يسمى التغلغل الإيراني فيها، جعل شروط أي مقايضة بين واشنطنوطهران، أقرب الى المستحيل. وببساطة، تبدو المنطقة بأسرها رهينة حسابات الربح والخسارة الإيرانية، وما يطرحه مرشد الثورة علي خامنئي كمخرج لأميركا من الأزمات الإقليمية مضاف إليها الملف النووي، إنما يهدي بوش كأساً مماثلة لتلك التي تجرعها الخميني مرغماً حين قبل بوقف النار مع العراق في حرب السنوات الثماني... بل أكبر بكثير من حرارة تلك الكأس، لأن مصالح الولاياتالمتحدة كلها، بدءاً من"الجبهة العراقية"، باتت في المواجهة. لذلك، يبدو الجميع في المنطقة عاجزاً عن فهم الحسابات الإيرانية، باستثناء تخيّل جدية طهران في تحدي أي خيار عسكري، وهو خيار مكلف لهم، لا تنحصر أثمانه في أصفهان أو منشآت ناتانز النووية. أليس العجز ذاته، ومعه عدم قدرة القيادة الإيرانية على صوغ معادلات واقعية، وراء فشل سياسة النوافذ الأوروبية التي فُتِحت لشهور طويلة، قبل تبيّن استغلال نجاد عامل الوقت لتطوير البرنامج النووي؟ كان الرهان الإيراني ان تكبيل الأميركي بغلال المذبحة الكبرى في العراق، كفيل بانتزاع أي هامش للمناورة من يديه، في الملف النووي وفي مثلث الأزمات العراق وفلسطين ولبنان. والمشكلة ان ترى طهران في استراتيجية بوش الجديدة عاملاً مساعداً لإغراقه أكثر في المذبحة ودمائها، من دون اعتبار لحسابات الثأر. المعضلة ان الجمهورية الإسلامية تتحدث بلغة السلام مع الجيران وتستفز الأميركي، وكأنهم غير معنيين بنتائج هذا الاستفزاز، تدعو الى التعاون الإقليمي، وتضعه في آن في مهب رياح الصراع مع الولاياتالمتحدة. ببساطة، ما تقوله ايران لأهل المنطقة ان لا خيار أمامهم إلا"الانتصار"، ولا خيار إلا باستسلام الأميركي ورحيله مهزوماً. وما بين لغة الانتصارات المستحيلة وسياسة الممكن، يبقى السؤال همساً من يقرر مصير العرب، ولماذا يدّعي هذا الحق بالنيابة عنهم؟